«لا المكسب يعني الانتصار ولا الخسارة تعني الهزيمة»، فثمة انتصارات بطعم الهزيمة، وهزائم بطعم الانتصار، وهذا الأمر يعكس الترجمة الحرفية لما شهدته نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية، حين حصل إيمانويل ماكرون على 58.8 بالمئة من الأصوات مقابل 41.2 بالمئة لمنافسته زعيمة «التجمع الوطني» مارين لوبان، وتمكن من الاستمرار برئاسة فرنسا لولاية ثانية.
في الشكل، وبلغة الأرقام، فاز ماكرون وخسرت لوبان، لكن القصة ليست بالنسبة، وإن كانت الأساس، بل إن الانتخابات أفرزت تفاصيل وحقائق جديدة، تؤكد تقدم لوبان عن الانتخابات السابقة عام 2017، لتسجل في الأمس أعلى نسبة تصويت يحققها اليمين المتطرف في تاريخ فرنسا، وتحقق تقدماً ملحوظاً عن الانتخابات السابقة التي حصلت فيها على 34 بالمئة، وربحت أكثر من مليوني صوت، ليشكل كل ذلك انتصارا حقيقيا إذا ما تمت مقارنة 41.2 بالمئة مع نتائج اليمين المتطرف في بداية الجمهورية الخامسة والتي لم تشكل حينها أكثر من 2 بالمئة من الناخبين، الأمر الذي أكدته صحيفة «ذا ناشونال»، بقولها إنه رغم الخسارة، فإن اليمين المتطرّف حقق «انتصاراً كبيراً في ظل الاتجاه السائد».
وبالنسبة لفوز ماكرون، لم يكن حصوله على النسبة التي جعلته يبقى في الأليزيه، انعكاس لرغبة وحب جماهيري جامع أو كاسح، بقدر ما كان «نكاية» بـ«لوبان» وخوفا من وصولها إلى سدة الحكم، وتصويت كتلة جان لوك ميلونشون، زعيم حركة «فرنسا الأبية»، ضدها إضافة إلى بلوغ المقاطعة نسبة ما يقارب 30 بالمئة كان خير مثال، على أن الفرنسيين اختاروا أهون الشرين، وهو ما دفع ميلانشون، إلى القول فور إعلان النتائج، إن ماكرون هو الرئيس المنتخب الأسوأ تمثيلاً في تاريخ الجمهورية الخامسة.
نتائج الانتخابات عكست، وكما يؤكد خبراء في الشأن الفرنسي انقساماً حاداً في الساحة السياسية الفرنسية بين ثلاث كتل رئيسة، وهي كتلة اليسار الشعبي التي تضم شريحة الشباب والطبقة المتوسطة في المدن الكبرى بما في ذلك الشباب العربي والإفريقي، وكتلة اليمين القومي التي تمثل مناطق الريف الفرنسي الشمالي والجنوبي، وكتلة البورجوازية الرأسمالية الأطلسية الحاكمة بفرنسا صاحبة الامتيازات والنفوذ منذ أكثر من ثلاثة عقود الموجودة بالمدن الكبرى وهي أقلية لها نفوذ مالي وإعلامي ويمثلها ماكرون.
انتهت المنافسة على الرئاسة، إلا أن المواجهة بين ماكرون ولوبان خاصة، واليمين المتطرف عامة لم تنته، فالجميع يتحدث عن جولة ثالثة من المواجهات، بعد الجولتين الأولى والثانية، جولة تتمثل بالانتخابات البرلمانية في حزيران المقبل، لتقول لوبان بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية فوراً إنها ستواصل الكفاح السياسي ضد ماكرون في الفترة التي تسبق الانتخابات البرلمانية، والأمر ذاته بالنسبة إلى كتلة ميلونشون التي ستحاول الحصول على نسبة مهمة من المقاعد النيابية يضمن لها المشاركة في الحكومة القادمة.
في البرلمان تكمن معضلة ماكرون، لتضاف إلى جملة من المشكلات المتوقع مواجهتها خلال السنوات الخمس القادمة، ملفات اجتماعية واقتصادية، قد تجعل من خريف وشتاء فرنسا فصلين ساخنين، خاصة مع تخندق ماكرون مع الولايات المتحدة الأميركية ضد روسيا في الحرب الأوكرانية، وما تسببه من انعكاسات اقتصادية خانقة على فرنسا وأوروبا لجهة النفط والغاز.
هل يخلع ماكرون العباءة الأميركية، ويذهب إلى سياسة أوروبية ومحلية بحتة إزاء العديد من القضايا الدولية مثل روسيا وأوكرانيا، وإيران، وسورية والشرق الأوسط عامة؟ سؤال كبير استبعدت الأغلبية العظمى من المتابعين للشأن الفرنسي، أن يقدم ماكرون على فعل، أو «تكويعة» كبيرة في سياسته الماضية، بل إن الجميع يؤكد أن ماكرون بقي في منصبه نتيجة لتلك السياسة التابعة لأميركا، والمحتمية بأوروبا.