ثقافة وفن

محمود جلال الفنان الرائد.. والمعلم الأب … ولد في ليبيا وتقلّد في سورية وسام الاستحقاق السوري … أول من أسس لتعليم الفنون في التربية والمدارس

| سعد القاسم

في موسمها الرابع العام الماضي، كرّست (أيام الفن التشكيلي السوري) احتفالها الرئيسي للفنان المعلم محمود جلال (1975-1911) بالتزامن مع مرور مئة وعشر سنوات على ولادته، فافتتح معرضٌ لأعماله في بهو قاعة الأوبرا، تلاه عرضٌ بصري لمجموعة منتقاة من لوحاته ومنحوتاته، برفقة مقطوعة (محمود جلال) التي ألفها للمناسبة المايسترو عدنان فتح اللـه وعزفتها الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية بقيادته.

من ليبيا إلى سورية

في يوم لا نعلمه من عام 1911 ولد محمود جلال في ليبيا، ليقف بعد ستين سنة أمام وزير الثقافة في دمشق ليقلده نيابة عن رئيس الحكومة السورية وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى، وبين هذين التاريخين حياة حافلة جعلت من محمود جلال واحداً من أهم الأسماء في الحياة التشكيلية السورية، لا لأهمية نتاجه الإبداعي فحسب، وإنما أيضاً لمساهمته البالغة القيمة في انطلاقة وترسيخ الحركة التشكيلية. فقد تتلمذ على يديه جيل كامل من الفنانين التشكيليين السوريين الذين أصبحوا أسماء مرموقة في المشهد التشكيلي السوري. ويذكر الفنان المعلم محمود حماد في كلمة له أنه كان ضمن مجموعة شباب يعملون معاً تعرفوا على محمود جلال قبيل نشوب الحرب العالمية الثانية بعد أن أتم دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، وكان جلال يتردد عليهم في مقرهم (مرسم فيرونيز) «فنلتقيه، كما يلاقى الأخ بعطفه ومحبته، والأستاذ بعلمه وتواضعه. نعرض عليه أعمالنا، ونسأله الرأي والنصيحة، وهو لا يبخل برأي إذا ما سئل، يبديه برفق المعلم المحب لمن كان دونه سناً وعلماً.. وفي مرسم فيرونيز حيث كان يجتمع إلى الفنانين الشباب عدد من الأدباء والصحفيين، كانت تنمو بذرة الحركة الفنية في سورية، ومنه انطلقت بدايات النشاطات الفنية التي توسعت وتحولت إلى مؤسسات عاملة ومنتجة في يومنا هذا. وفي هذه البوتقة كان لجلال مكانة فكرية متميزة، وكان يطلعنا على إنتاجه، ويحفزنا على متابعة الجهد، ومغالبة الصعاب». وفي عام 1950 حولت مجموعة المرسم نشاطها إلى الجمعية السورية للفنون، ورابطة الفنانين السوريين للرسم والنحت وكان محمود جلال من مؤسسيهما ورئيساً لهما. كما كان قبل ذلك مساهماَ في تأسيس الجمعية العربية للفنون الجميلة في الأربعينيات ونائباً لرئيسها. ومن ثم مقرراً للجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب منذ تأسيسه حتى عام 1969. وفي العام ذاته تلا البيان التأسيسي لنقابة الفنون الجميلة.

دوره في الحركة التشكيلية

ترجع كثير من نجاحات الحركة التشكيلية السورية إلى الدور الذي أداه المعلم جلال في المواقع العلمية والثقافية العديدة التي شغلها، ومساهمته الفاعلة في نجاح وتكريس المعرض السنوي، وإيفاده الطلاب لدراسة الفن في أوروبا، وتأسيس كلية الفنون الجميلة في دمشق. وكان لطلابه الموفدين دور أساسي في تأسيسها. وقد عمل جلال أستاذاً للنحت فيها، ثم أصبح وكيلاً لها حتى تقاعده عام 1970. ففي عام 1954 أصبح محمود جلال أول مفتش للفنون في وزارة المعارف (التربية حالياً) ووفقاً لتعبير ممدوح قشلان فإن جلال «استطاع أن يوجد أول كيان معترف به لمادة الفنون في الإطار التربوي العام، وقد سعى جاهداً لتطوير تدريسها في جميع المراحل حيث أوجد أول منهاج رسمي لتدريس الفنون في سورية، إضافة إلى تأمين الجهاز التدريسي لها من أفضل العناصر وأكفأها، وسعى إلى إيفاد البعثات الدراسية الأولى. على أن ثوريته التربوية الكبرى كانت في السعي الجاد والمشاركة الفاعلة لتحقيق إنشاء كلية الفنون الجميلة.. وتحقق الحلم عام 1960 بذرة يانعة ترعرعت متنامية، بدأنا نقطف ثمارها». وفي لقاء تلفزيوني أجريته مع الفنان المعلم إلياس زيات عد محمود جلال أول ثلاثة معلمين منحوا كلية الفنون الجميلة أهميتها، (مع محمود حماد وفاتح المدرس).

الفن من الولادة

ظهرت ميول محمود جلال الفنية منذ طفولته المبكرة وهو يعيش متنقلاً بين المدن السورية منذ أن عين والده في سلك القضاء عام 1914 إلى أن استقر في دمشق بعد تقاعده عام 1933. وبدا من أعماله الفنية اللاحقة أن الصور التي شاهدها في السويداء ودرعا وقطنا ودير الزور استقرت عميقاً في مخيلته الإبداعية. غير أن تنقل الأب الدائم لم يكن الأمر الأكثر أهمية في تجربة الابن، وإنما موقفه المتفهم والمشجع منذ أن سانده يوم اعتبر مختار الحي في دير الزور نشاطه الفني خروجاً عن العرف الاجتماعي، إلى أن قام بإرساله إلى إيطاليا لدراسة الفن على نفقته حيث انتسب بين عامي 1939 – 1935 إلى الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة، ودرس التصوير الزيتي على يد الفنان (سيفيرو)، وانتسب في الوقت ذاته إلى مدرسة ليلية للنحت يديرها الفنان (سان جاكو).

الكلاسيكية الحديثة وحماد

صنفت تجربة محمود جلال ضمن الكلاسيكية الحديثة، وهو توصيف ينسجم مع تصريحاته عن تجربته، وينسجم أيضاً مع التزام معلمه (سيفيرو) بهذه المدرسة. ومن المؤكد أن مرحلة الدراسة قد حددت مسار تجربته، ولكن من الإنصاف أيضاً القول إن دراسته الأكاديمية كانت تنسجم مع مفهومه لفن التصوير حيث آمن دوماً أن الكلاسيكية خطوة لا بد لكل رسام أن يبدأ بها، وهو لذلك كان فيما بعد أحد الذين يعود إليهم الفضل في تكريس الإيفاد الخارجي لدراسة الفنون دراسة أكاديمية. لكن هذا لم يكن ليعني أنه وقف في وجه التجديد، بل نراه يعلن صراحة أن التجديد خطوة ضرورية، ونلحظ في المراحل التالية مدى تفرد وتميز أسلوبه، وقدرته على استثمار القواعد الأكاديمية لصياغة تجربته الخاصة التي استطاعت بنجاح كبير أن تقدم أعمالاً فنية ذات خصوصية محلية واضحة، بفضل اتجاهه نحو البيئة المحيطة فكانت أعماله نقاطاً بارزة ومهمة في مسيرة التشكيل السوري، سواء أكان الحديث عن لوحاته أم عن منحوتاته وقد امتلك الكثير منها شهرة واسعة كما هو حال لوحات:(الراعي)، و(صانعة أطباق القش)، و(حاملة الجرة). ومنحوتات: (عباس بن فرناس)، و(الاتحاد)، و(أطفال عامودا).. فكما في التصوير ففي النحت أيضاً عبر جلال عن أفكار غير معقدة ببراعة مبهرة، وبروح تجديد تجلت في الأحدث منها وهو ما تحفظه لنا أعمال عدة منها (الأمومة) و(فدائي).

محمود جلال، الذي تلقى دعماً كبيراً من أبيه، وأشاع الجو الفني في مجتمع واسع، كان طبيعياً أن يشيع هذا الفن في بيته، فتابع ابنه خالد مساره في النحت، مستلهماً النحت السوري القديم، ومشت ابنته سوسن على دربه في التصوير. غير أن أصعب ما مرت به الابنة هو الرحيل المبكر لشقيقها خالد أثناء دراسته في روما، واضطرارها لإخفاء الخبر عن أبيها في عمره المتقدم وحاله الصحي الصعب، فلجأت لرسائل تكتبها له باسم شقيقها حتى لحظة رحيله.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن