ثقافة وفن

مصطفى علي: هذه الموهبة لم تفارقني ودائماً كنت أحب أن أرى العالم في ثلاثة أبعاد

| مايا سلامي

في جنة مصغرة على الأرض هاربة من الحكايات الدمشقية القديمة وعبق ياسمينها اختار موطن إبداعه الذي انطلق فيه من تراب أوغاريت إلى العالم كله واستطاع منذ خطواته الأولى أن يضع بصمته المميزة على أعماله التي أبحر فيها إلى الأعماق حتى كاد يستنطق الحجر والخشب، فاحتل الفنان مصطفى علي مكانة خاصة في النحت السوري والعالمي حتى زينت إحدى منحوتاته الفنية سطح معهد العالم العربي في باريس، وفي عام ٢٠٠٧ صنفته مجلة « أربيان بزنس» كواحد من أكثر مئة شخصية مؤثرة في العالم العربي.

وفي حوار خاص له مع «الوطن» أخبرنا الآتي:

• بماذا تميزت طفولة مصطفى علي التي شكلت أول ملامح إبداعه الفني؟

هناك ما يسمى بالنشأة والإنسان عندما يفتح عينيه على هذه الدنيا للمرة الأولى وحتى في مرحلة اللاوعي تشغله أشياء معينة وتكون كهواية له بدأت تأخذ اهتمامه شيئاً فشيئاً مثل اللعب بالطين والاستماع للموسيقا أو عزف البيانو وغيرها من الأمور ولكن هذا فقط في حال وجود بداية موهبة، وعندما كنت صغيراً كنت أسكن في أطراف مدينة اللاذقية وأمام بيتنا كانت توجد ساقية تفيض في فصل الشتاء فتلقي على أطرافها الطمي، وهذا الطمي كنت أجمعه لألعب فيه وأشكل منه أشياء مختلفة من مشاهداتي في تلك المرحلة كالوجوه أو الأسماك مثلاً أي تلك الأشياء التي كانت موجودة في بيئتي، ولا أستطيع أن أسمي ذلك البداية لكنه كان الأساس لشيء يساعد على نمو هذه الموهبة التي لم تفارقني فدائماً كنت أحب أن أنحت وأن أرى العالم في ثلاثة أبعاد.

• متى كانت البداية الفعلية لمسيرتك الفنية؟

عندما كبرت قليلاً في آخر المرحلة الإعدادية ذهبت إلى ما يعرف بمركز الفنون في اللاذقية وعندما رأيت قاعات النحت للمرة الأولى ذهلت واعتبرت نفسي أني وجدت بداية طريقي وأصبحت أمضي معظم أوقاتي في هذا المركز لدرجة أني امتلكت مفتاحه لكي أذهب إليه متى أشاء وأعمل بداخله، حتى وأنا في مرحلة البكالوريا كنت أتردد إليه بشكل يومي لأتعلم وأطلع على خبرات وتاريخ فنانين آخرين، ومن بعد ذلك التحقت بكلية الفنون الجميلة وكانت بمنزلة فرصة عظيمة بالنسبة لي فبدأت بدراسة عامة للفنون لمدة سنتين ثم تخصصت بدراسة النحت لثلاث سنوات، وفي الحقيقة بدأت أعمالي تتميز في السنة الرابعة حيث كان أساتذة الكلية يقولون هذا أسلوب مصطفى علي الأمر الذي خلق عندي دافعاً كبيراً وشجعني على الاستمرار لأن خصوصيتي بدأت تظهر.

• ما التحديات التي واجهتها عندما توجهت لدراسة الفنون الجميلة؟

لم تتوافر لدى أهلي الإمكانات الكافية لتدريسي وكان والدي دائماً ما يقول لي اذهب وادرس في معهد الفنون ليعطوك 200 ل. س في الشهر، (في تلك الأيام كان يعتبر مبلغاً مادياً جيداً) وبهذه الطريقة تساعدنا وتؤمن مصروفك، فقلت له بأني أريد فقط دراسة الفنون الجميلة والنحت تحديداً ولا أريد منكم الدعم المادي إلا في أول سنة فقط لكوني سأنتقل إلى دمشق وأنا غريب عنها لا أعرف أحداً فيها، ووعدت أهلي بألا أحمل أي مادة معي ووفيت بوعدي بأني نجحت بكل المواد بشقيهما النظري والعملي منذ الفصل الأول وعدت إلى اللاذقية حيث كنت أقضي فيها ما يقرب الستة أشهر، لكن في السنوات اللاحقة تعرفت بشكل أكبر إلى مدينة دمشق وأصبح لدي فيها الكثير من المعارف والأصدقاء، كما أنني بدأت العمل في مجالات مختلفة لأؤمن مصروفي وأكمل دراستي إضافة إلى عملي في جوانب فنية لها علاقة بالتزيين والديكور وبقيت على هذا النحو حتى سنة 1988.

• ما أبرز الأشياء التي لم تغب عن ذاكرتك وكانت دائماً حاضرة في أعمالك؟

عندما كنت في الصف التاسع لم نكن نملك الكهرباء فكنت أدرس تحت إنارة الطريق وأنا أمشي أرقب ظلي وهو يطول شيئاً فشيئاً وعندما يصبح في أقصى طول له كنت أقف وأستمتع بمشاهدته، وبذلك أستطيع القول إن الأشكال الطويلة والنحيلة في أعمالي نشأت من مؤثرات محيطة بي ومن أشياء أردتها وجذبتني إليها وكان بدايتها هو ذلك الظل، وبقيت في هذه التجربة «الطول والنحالة» وفيما بعد أصبح كل شيء متاحاً فالفنان عليه أن يقتحم أي مساحة أو تجربة جديدة وأي أرض بور هو يستطيع الحراثة فيها شرط أن يملك الأداة الحادة والجارحة والحب والعاطفة، فسر الإبداع أشياء بسيطة وعندما يعرف الفنان كيفية الإمساك بهذا السر يحول كل شيء أمامه إلى أعمال فنية ويصنع المعجزات، وغالباً ما يكون لديه جملة من الأفكار في رأسه ولكي تتحقق هذه الأفكار في مشروع نحت مثلاً تحتاج لأن يكون الفنان متمكناً من كيفية عمل شكل في الفراغ، فالفكرة مهما كانت رئيسية في العمل الفني إلا أن العمل يقوم على حضوره بحد ذاته والمعنى يكمن في جوهره، فمثلاً أثناء مناقشة مشروع تخرجي لاحظت أن أعضاء لجنة التحكيم تفاعلوا كثيراً مع العمل لدرجة أن أحد الأساتذة استطاع تحديد البيئة التي نشأت فيها وقال لي «أنت ابن البحر وهذا واضح من عملك»، ويعني أن الطقس وجغرافيا المكان مع الإرث التاريخي تسهم في صناعة العمل الفني.

• ما المنعطف الأهم في مسيرتك الفنية؟

سنة 1988 أنجزت تجربة كاملة لأعمال بمادة البرونز التي كانت من الأمور الصعبة والمكلفة في ذلك الوقت وأقمت أول معرض لي في هذه الأعمال وكان أيضاً الأول من نوعه في تاريخ سورية المعاصرة وتضمن نتاج عمل استمر لمدة عشر سنوات واستطعت أن أصل إلى نتيجة رائعة حيث بيعت كل المنحوتات المعروضة حينها وحققت شهرة واسعة على مستوى الشرق الأوسط وأوروبا وبدأ الناس يزورون مشغلي لاقتناء أعمالي، وهنا شعرت بأني أعمل بالشيء الذي أحبه والذي يخرج من روحي ومشاعري فتفرغت للعمل الفني منذ ذلك الوقت.

• كيف انعكس سفرك ودراستك في إيطاليا على أسلوبك الفني؟

بعد عام 1990 بدأت أشعر بأني لا أريد أن أكرر نفسي فكان علي أن أبحث عن مكان جديد لأخرج بتجربة جديدة فسافرت إلى إيطاليا وكانت مرحلة صعبة بالنسبة لي بعد كل النجاح الذي حققته في بلدي أن أبدأ مجدداً من الصفر وكأنني طالب يجب علي البحث والعمل من دون أن أعلم كيفية السير في هذا الطريق الجديد ضمن تجربتي، وهذا ما قادني إلى مرحلة عبثية أو فوضى كان لها دور في عملية تجديد النفس أو ما أسميه إزالة الغبار عن الدماغ، فخضت هذه التجربة الجديدة وأقمت معارض من هذه الخبرة التي حققتها في إيطاليا وعرضت في دمشق وبيروت وعمان ومنذ ذلك الوقت أنا مستمر بتعلم كل ما هو جديد، فدائماً هناك تأثيرات وتجارب ورياح جديدة والفنان المبدع يجب أن يملك القدرة على التجديد التي تأتي من سر صعب وسهل في الوقت نفسه وهو كيف يمكن للفنان أن يبحث دائماً عن حالة جديدة.

• ما هوية مصطفى علي الفنية؟

تجارب تاريخ الفن كانت كلها أمامنا وأنا أحب التشخيص ولم أبتعد عنه وأسميه بـ«واقعي تعبيري» فاشتغلت على حالة الإنسان من الداخل ونسيت الشكل الخارجي ودخلت إلى عمق العمل الفني وعكسته على السطح حيث يشعر المشاهد عندما يقف أمام التمثال بأنه يستطيع الدخول إلى عالمه وهذا الشيء كان مهماً جداً في تجربتي وما زال الجوهر الذي يخرج إلى السطح هو أساس التعبير عندي، ولا أهتم بالشكل الخارجي إلا لخدمة الموضوع والجوهر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن