هو سؤال أطرحه دائماً على الذين يبالغون في جلد الذات، ويعملون باستمرار على تحطيم الروح المعنوية وتدميرها، دون اتباع أسلوب علمي- موضوعي في نقد الظواهر العديدة، التي نتجت عن حرب دفع فيها مئات مليارات الدولارات لتدميرنا، وقتل أي إمكانية لاستعادة المبادرة والنهوض من جديد.
يريد البعض لنا أن نبقى ندور في دائرة مفرغة، أن يقتل إيماننا بالغد والمستقبل، وأن نترك بلدنا خراباً من دون أي جرعة أمل، والسؤال هنا: من هم هؤلاء الذين واجهوا، وقاتلوا عتاة مجرمي العالم، وقتلته؟ من هم هؤلاء الذين كانوا في بيوتهم تحت القصف وخطر الموت؟ من هم هؤلاء الذين كانوا يرسلون أبناءهم للمدارس والجامعات متحدين خطط القتلة الذين أبقوا ملايين أطفال السوريين بلا تعليم في مخيمات اللجوء؟ من هم هؤلاء الذين كانوا يفتحون محلاتهم التجارية ويشغلون ورشاتهم الاقتصادية ومعاملهم في عز الحرب وأتونها؟ من هم هؤلاء الذين قدموا فلذة أكبادهم في مختلف جبهات القتال دفاعاً عن وجودنا، وبقائنا ومستقبلنا؟ من هم هؤلاء الذين لم يتركوا دور العبادة للمتطرفين، والجهلة كي تبقى حية ومكاناً لعبادة الله، ونشر قيم الخير والمحبة! من هم هؤلاء الذين حموا المعامل والمنشآت والجامعات، وورش العمل والإنتاج؟ من هم هؤلاء الذين كانوا يصلحون خطوط الكهرباء والغاز بعد استهدافها من الإرهابيين؟ من هم هؤلاء الذين كانوا يسهرون الليالي في المشافي والمستوصفات لمداواة الجرحى، ومواجهة القتل اليومي الذي كان يتعرض له السوريون؟ من هم هؤلاء الذين واجهوا ذئاب الدبلوماسية الغربية، في عقر دارهم في نيويورك، وكانوا نموذجاً حراً أصيلاً يعبر عن رسالتنا وقناعتنا، ورؤانا بصوت قوي كان يخرج القتلة من القاعة لأنهم يعرفون أنهم يكذبون؟ من هم هؤلاء الذين كانوا يحملون وطنهم في قلوبهم، ويرفعون علم بلادهم في بلدان الاغتراب، ويتحدون هناك للتعبير عن مشاعرهم الحقيقية والصادقة؟
هؤلاء هم، نحن السوريين في كل بقعة ومكان داخل سورية وخارجها، وخلف وجوه هؤلاء وفي قلوبهم سنجد القصص والروايات الحقيقية، التي تصلح أن تقدم نماذج للإنسانية والشعوب الأخرى، وتتحدث وتروي بطولات وتضحيات وصبر وجلد وشجاعة الشعب السوري، وحقيقة الأمر أننا مقلون في إبراز ذلك، وتصويره وتحويله إلى شخوص حية في الفن أو الدراما، ذلك أن النماذج السيئة، والتي هي موجودة في حياتنا وواقعنا، تطفو على السطح، ليعتقد البعض أن هؤلاء هم النموذج والقدوة وليُخيل لنا أننا في مجتمع الغابة، مجتمع لا رحمة فيه، ولا تعاضد، ولا تكافل، بل تسوده مواخير الدعارة، ويسيطر عليه الفاسدون، ويُدّرس أبناءنا وبناتنا أساتذة مرتشون، ويديرنا تجار المخدرات، ويباع ويشترى كل شيء في هذا الوطن!
أعود لأطرح السؤال مرة أخرى: إذا كانت هذه هي صورتنا، وهذا هو شعبنا، ومجتمعنا، أجيبوني عن سؤالي: كيف صمدنا أحد عشر عاماً، ودخلنا العام الثاني عشر، ويكاد خصومنا وأعداؤنا يحارون في كيفية العمل على تدميرنا، وتحطيمنا؟ ألم يروجوا لانهيارنا بعد ستة أشهر، ألم يكتبوا أبحاثاً وأبحاثاً عن مواعيد لانهيار الدولة السورية، وتشريدنا في أربع رياح الأرض، ألم يروج بعض المسؤولين الغربيين عن الأيام والشهور المعدودة؟ إذاً: كيف صمدنا؟ نطرح السؤال مرة أخرى، كي لا نجلد ذاتنا كثيراً، ونرى سلبياتنا من دون أن نغوص في عوامل قوتنا، وإيجابياتنا، كي نعززها، ونقويها، ونبرزها، وفي الوقت نفسه نعمل على تلافي وتجاوز السلبيات والأخطاء والنواقص.
صمدنا أيها السادة لأن الكتلة الشعبية الوازنة من السوريين أدركت وآمنت أن هناك مشروعاً خطيراً يستهدفنا جميعاً، صمدنا لأننا أدركنا أن القضية في سورية ليست قضية نظام سياسي وتعديلات دستورية وانتخابات، بل هي قضية الاستيلاء على السفينة السورية، وتحويل مسارها لتدار من قباطنة يتحكمون بحركتها كيفما يشاؤون، صمدنا لأننا أدركنا أن خلاصنا ليس بيد أولئك الذين قبضوا ثمن عمالتهم، وارتهانهم للخارج، وتحولوا إلى أدوات رخيصة وخونة، سيرمون في مزابل التاريخ، صمدنا لأننا فهمنا أن حراكاً تدعمه قطر وتركيا وأميركا والغرب المنافق، هو حراك مشبوه قطعاً، صمدنا لأننا أدركنا أن بديل الفوضى هو تعزيز مؤسسات الدولة، وأن بديل الثورجيين الذين يعملون كمرتزقة هو دعم المؤسسة العسكرية والوقوف خلفها في هذه الحرب الوجودية، صمدنا لأننا وعينا أن ثورات قناة «الجزيرة» تديرها الاستخبارات الغربية، صمدنا لأننا تأكدنا أن تنوعنا قوة ضاربة في وجه المشروع الصهيوني الاستئصالي العنصري والاستيطاني، وأن البقاء في هذه المنطقة لا يمكن أن يكون لمشروعين متناقضين، صمدنا لأننا أبناء الأرض ولأن هذه الأرض فيها أسرار الأجداد ورائحة عبق التاريخ، وفيها عاداتنا وتقاليدنا وإرثنا الثقافي، وفيها حاراتنا القديمة، وقصص طفولتنا وشبابنا، وعشقنا وحبنا، صمدنا لأننا عرفنا أن البديل هو الفناء وانتهاء الوجود، وأن أولئك الذين ذرفوا الدموع علينا هم أنفسهم الذين يذرفون الدموع على اليمنيين، وقبلهم العراقيون، ثم الأفغان والآن الأوكرانيون.
صمدنا لأننا أحسسنا أن لا أحد سيحرص على مدننا، وتراثنا، ونسائنا، وأطفالنا، كما سنحرص نحن.
صمدنا لأننا لمسنا كيف يترك أطفالنا بلا تعليم في الملاجئ، وكم سندفع عندما سنفقد جامعاتنا المجانية، ثم حتى إذا علمونا، علينا أن نسأل ماذا يريدون منا؟!
صمدنا أيها السادة لأن غالبيتنا تحب بلدها وتعشقه، ولأننا لسنا أصحاب الصور النمطية التي تقدم عنا في بعض مسلسلاتنا، ولسنا أولئك الفاسدين الذين نراهم مثل الإرهابيين لا بل أخطر، وبناتنا لسنا في بيوت الدعارة بل هن طبيبات ومهندسات وقاضيات وأديبات وأمهات وبنات الشهداء العظام، لا بل هن القوة الروحية التي شكلت السر الذي يقف خلف هذا الصمود الأسطوري، ورجال الأمن لدينا سهروا الليالي، واستشهد منهم المئات، كي ننعم بالأمن والاستقرار، وأبناء جيشنا هم أولئك الذين قاتلوا في معركة الكليات في حلب، وخاضوا حصار دير الزور، وسحقوا الإرهابيين في القصير وبابا عمرو، وحرروا درعا من إرهابييها، وقاتلوا في مطار كويريس، وفي سجن حلب، وفي تلال وجبال وصحارى سورية، ومازالوا.
نماذجنا في مكان آخر، وما يقدّم لا يمثلنا على الرغم من وجوده في الواقع، لكن ذلك لا يعني تشويه صورة المجتمع بأكمله، لأننا بذلك ننشر قيماً تشعرنا أننا في عالم سوداوي لا خير فيه، وهذا سيقتل جرعة الأمل التي يجب أن نقدمها دائماً لشبابنا وأجيالنا، ونزرع فيهم القيم الحقيقية ونقدم لهم الأبطال الذين يمثلون الكتلة الشعبية الوازنة من السوريين، ويعكسون تاريخنا وثقافتنا وإرثنا الحضاري.
هي دعوة للمؤسسات الإعلامية والثقافية والفنية، للتفكير ملياً قبل الدفع بهذا الكم الهائل من البشاعة والقتل والدعارة والمخدرات، وهو جانب أسود موجود في مجتمعنا وغيره من المجتمعات، لأننا بحاجة لجرعات من الحب والدفء، وإظهار عوامل صمودنا الكثيرة، وضخ روح وطنية تجمع السوريين ولا تفرقهم.
كتب الأديب الروسي الشهير دوستويفسكي في عام 1877 قصة بعنوان «حلم رجل سخيف» وتدور أحداث القصة حول رجل يدفعه البؤس والاكتئاب إلى اتخاذ قرار بالانتحار، وفي طريقه لتنفيذ قراره يجد بعض الأشخاص الذين يحتاجون للمساعدة فيقدمها لهم، ويكتشف من خلال أعمال المساعدة التي قام بها أن مشكلته تكمن في عدم وجود اهتمامات أو أهداف في حياته، وهنا يستيقظ الرجل من حلمه، ويزيل فكرة الانتحار من عقله، ويبدأ بمساعدة الآخرين.
صحيح أن رسالة الفن والأدب سامية، ودوره أن يظهر لنا سلبياتنا وأخطاءنا، ويضيء عليها، لكن ليس بأن يدفعنا للانتحار، بل ليظهر لنا أيضاً قوى الخير التي تساعد الآخرين، والتي هي سر صمودنا.