شكلت القضية الفلسطينية بصورة عامة والقدس بصورة خاصة، أبرز اهتمامات القيادة الإيرانية بعد أن أعلنت عن ولادة ثورتها في 11 شباط 1979، حتى بات الدفاع عن هذه القضية وتبنيها في قمة أولويات السياسة الخارجية الإيرانية في كل المحافل الدولية من الناحية السياسية والدبلوماسية ومد يد الدعم والعون لها في المجالات العسكرية والإنسانية والإعلامية، حيث بات نجاح الثورة الإسلامية حدثاً لا يمس الداخل الوطني بل هزة جيواستراتيجة أرخت بظلال تأثيراتها على واقع المعالم الإقليمية والدولية وطبيعة التحالفات التي تبدلت منذ تلك المرحلة، لتطال بما في ذلك القضية الفلسطينية.
هذا التأثير تمثل في صورتين رئيسيتين تركتا تأثيرهما المباشر على مسار الصراع الفلسطيني الصهيوني، حيث يعود السبب في اختيار يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان، والتي تدعى بالجمعة اليتيمة أو جمعة الوداع، ذلك لتذكير المسلمين بعد شهرٍ حافل بالصوم والعبادة وصالح الأعمال بقضية القدس والأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وفلسطين السليبة، وما يمارسه الصهاينة في هذه البقاع الطاهرة من سلوكيات إرهابية غير إنسانية تهدف إلى تهويد مدينة الأنبياء وطمس المعالم الإسلامية والمسيحية فيها كليا، وجعلها عاصمة أبدية لكيانهم المغتصب. لذلك قررت إيران الثورة جعل هذه الجمعة اليتيمة، يوماً عالميا للقدس الشريف، بعد التطورات الإقليمية من حيث مواقف بعض الدول تجاه القضية والعلاقة مع الكيان، حيث بدأ بعض قادة العرب والمسلمين بالتخلي عنها، وحولوا القضية الفلسطينية إلى مجرد ورقة للمزايدة في بازار المصالح.
من العوامل المهمة التي دفعت الإمام الخميني لتبني هذه القضية، هو استقباله للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في 17 شباط 1979، والذي كان أول ضيف يزور إيران بعد ستة أيام من إعلانها انتصار الثورة الإسلامية من العام ذاته، وقام خلال زيارته برفع العلم الفلسطيني على مقر البعثة الإسرائيلية في طهران، بعد أن وجه الخميني بجعلها مكتبا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبعد اجتماعات مكوكية في طهران واتصالات مع بعض دول الطوق وفي مقدمتها سورية ابتداء من أيلول 1979، لتنظيم حملة سياسية وإعلامية قادتها إيران لمواجهة اتفاقية السلام، ومن يومها أصبحت القضية الفلسطينية الشاغل الأول للجمهورية الإسلامية في إيران، في كل تفاعلاتها وتحركاتها الإقليمية والدولية، ليؤكد كل ذلك تحول إيران لحاضن رئيسي ومركزي لمحور المقاومة والممانعة في المشرق العربي، والداعم الفعلي المناوئ لعربدة الكيان الصهيوني وغطرسة الإمبريالية الأميركية.
أما الصورة الثانية التي تعبر عن التحولات التي أفرزتها الثورة في إيران، فهي تشكيل فيلق عسكري داخل الحرس الثوري الإيراني، يعرف باسم «فيلق القدس» وتكون مهمته تحرير القدس وتقديم كل ما يلزم لدعم الفصائل والشعب الفلسطيني في مسار صراعه مع الكيان المغتصب ومن خلفه الدول الداعمة له.
بناء على ما سبق، يمكن القول إن تبني طهران ليوم الأرض نصرة للقدس يعود للأسباب التالية:
1. على المستوى الديني: إبراز أهمية المنزلة الرفيعة لمدينة القدس لدى المسلمين والمسيحيين وكل المؤمنين بمختلف توجهاتهم وطوائفهم ومذاهبهم، والدعوة لتحرير مناطقها المقدسة لشعوب العالم.
2. على المستوى السياسي: التأكيد على عدم مشروعية الكيان الصهيوني المحتل، ووجوب التحرك الجاد على كافة الصعد لتعرية جرائمه.
3. على المستوى الدولي المقاوم: توحيد كلمة المستضعفين في جوانب المعمورة، وضرورة التلاحم فيما بينهم لمواجهة مخططات ودسائس القوى الاستكبارية، التي تستهدف تمزيقهم ونهب ثرواتهم واحتلال أرضهم والتحكم بمصيرهم.
4. تعرية الدول والأنظمة المتعاملة مع الكيان الصهيوني المغتصب، وإفساح المجال للشعوب كي تعبر عن إرادتها ورأيها تجاه القضية الفلسطينية، وإشعار الفلسطينيين بأنهم ليسوا وحدهم في ميدان المواجهة مع الكيان الصهيوني.
5. وهو ما يؤكد أن أهمية يوم القدس له اعتبارات متعددة في المجالات السياسية والعسكرية والإنسانية التي تحمل أبعاداً متتالية تتمثل في:
أولاً: التزام إيران والدول المقاومة بالقضية الفلسطينية قولاً وفعلاً، ويوم القدس هو تجسيد لهذا الالتزام من قبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقيادتها وشعبها وحرس ثورتها، الذي يجسد بدوره هذا الالتزام بدعم مباشر للمقاومة الفلسطينية الشعبية والمسلحة، وتشكيل فرقة القدس المجندة لهذه الغاية.
ثانياً: التأكيد على جذرية الصراع المستمر بين أصحاب الحق سكان فلسطين الأصليين، والمستعمرين والمستوطنين الصهاينة الذين احتلوا فلسطين بقوة الإرهاب والتنكيل والقمع الوحشي، وشردوا القسم الأكبر من أبناء فلسطين من أرضهم وديارهم، وبالتالي إعادة وضع الصراع في مساره الصحيح باعتباره «صراع وجود وليس صراع حدود».
ثالثاً: القضية الفلسطينية هي قضية أممية إنسانية لا تعني العرب الفلسطينيين والأمة العربية فقط، بل تعني أيضاً كل الشعوب والأحرار في العالم.
رابعاً: تكريس واقع المقاومة والمطالبة بالحقوق والاستمرار في تذكير الأجيال من عام لعام بأن هناك أرضاً محتلة، وأن القدس المقدسة مغتصبة وتتعرض للعدوان المستمر من قبل الصهاينة.
خامساً: إفشال وإحباط المخططات الأميركية الصهيونية الهادفة إلى تفتيت المنطقة وتمزيقها لطمس قضية فلسطين وتطويبها للصهاينة، والتأكيد بأن الصهاينة يريدون شطب كامل الحقوق العربية الفلسطينية.
سادساً: منح المسار المقاوم والكفاح المسلح الشرعية اللازمة وتأمين الدعم اللازم لاستمراره وتطوير قدراته، وهي المهمة التي أوكلت لفيلق القدس.
يوم القدس هذا العام يتزامن دون أدنى شك بتطورات فلسطينية وإقليمية ودولية، تتمثل أبرزها في ارتفاع وتيرة العمل الفدائي داخل الأراضي المحتلة ونضوج الظروف لاقتراب انتفاضة ثالثة في ظل التشرذم السياسي الفلسطيني، وتغير توازن القوى والردع مع جيش الاحتلال، كما أنها تتزامن مع اقتراب الجمهورية الإسلامية لاتفاق مع الغرب لإعادة الاتفاق النووي وخروج سورية من عنق الزجاجة متعافية من الإرهاب الذي وجه لها، فضلا عما حققته المقاومة اليمنية من انتصارات أسطورية، وانهيار الطموحات الصهيونية من توسيع دائرة الدول المنخرطة في ما عرف بـ«اتفاقيات إبراهيم»، لتكريس وجودها في المنطقة، وازدواجية المعايير السياسية والعسكرية والإنسانية التي عرت ادعاءات الغرب البراقة والتي ظهرت في موقفهم ضد روسيا في أوكرانيا التي تشكل البوابة الأكبر لتغيير النظام الدولي.