لله در هذا الشاعر الذي أشار بوضوح إلى أنه لا يمكن إخفاء حقيقة المرء عن الناس ومهما تكن عند امرئ من خليقة.
ولله در المتنبي حين قال: أكان سخاء ما أتى أم تساخياً.. المشكلة الكبرى في أمرين أولهما المعرفة الذاتية وتصديق الكذب وثانيهما الرياء المجتمعي وإكساب الفضل للمرذول، ومحاولة ليّ عنق الحقيقة، تارة بالإسكات، وأخرى بالوجاهة، وثالثة بالمكانة، ورابعة بالسلطة، وهي الأكثر سهولة وانكشافاً، فكم من واعظ، بغض النظر عن شريعته تستمع إليه مباشرة أو عبر وسائل التواصل، سحنته تنبيك بأنه كاذب ومراوغ، ونبرته وصوته ومخرج حرفه يعطيك الحكم بأن هذا الإنسان يتكلم من لسانه لا من جوارحه، فقد يحدثك بالإنجيل والقرآن، وهو غير قادر على إقناع نفسه بما يقول، ولكنه يريد منك أن تقتنع وإن لم تفعل فأنت جاهل! وهو قادر على تجييش الناس ضدك، وربما وصفك بالمروق!
أول ما أحكم به على الشخص عندما نتحدث هو الروحانية، ولا أعني بذلك الروحانية الإيمانية الدينية، بل وجود الروحانية في قسماته وصوته، فقد يكون غير جميل وغير بهي، لكن الروح تنثال على لسانه ويديه ولسانه، فيدلف بك إلى عوالم جوّانية قادرة على مخاطبة روحك، بغض النظر عن اقتناعك أو عدم اقتناعك، وقد يكون هذا الشخص غير ودود، وغير لطيف، لكن إشراق روحه وروحانيته يجعلك أمام ذاتك، يصلك دفء روحه، وصدق نبرته، حتى وإن قال لك: إنني لا أحبك، فإنك تجد نفسك منساقاً بإرادتك، وربما بغير إرادة إلى روحانيته الطاغية التي تنبيك عن خليقته، ولم يعمل على إخفائها.. وهذا الرأي والمذهب في الحياة سبّب لي الكثير من المتاعب والإشكالات، فلا أرقب الابتسامة بل الروح، ولا يعنيني العلم بلا روح، ولا أكترث لعطاء مهما بلغ إن لم يكن مغلفاً بالروح، وأجد نفسي منساقاً دوماً للروح والروحانية مستعداً لدفع أي ثمن يترتب عليَّ.. وكم خسرت لأنني أصارح الآخر بما شعرته تجاهه!
وفي ميدان عملك تجلس إحداهن أو سيد جليل، تتعامل معه باحترام وتقدير، ويتكلم معك بوضوح وصراحة، فتعجبك جرأته، ويتحلق حوله مريدوه، لكن انتباهة إلى تكوين الأسنان تظهر لك الروح المليئة بالحقد والكره وعدم الصدق، مرة أخرى تنفر الروح ولا تتمكن من العودة إليها، ومن العودة إليك، ويأتيك من يحاول أن يصحح لك خطأك ليقنعك بأن هذا شخص نبيل ومحترم، معتمداً على حسن هندامه، وثعلبية كلماته، ومراوغة عواطفه التي يتقنها.. تنفر الروح، ويحاول النديم أن يقنعك، وربما وصل إلى مرحلة يشكك فيها بحدسك وظنك، فيقول لك: خفف من حدتك، ظني به أحسن من ظنك ألا تثق بظني؟
من المؤكد أنني لن أفعل ولن أثق، وأكون خاسراً لروحي إن تبعت حسن ظنك، أو حتى تبعت حسن ظني، أما سمعت الشاعر يقول ولو بلسان الحب:
ولكني شقيت بحسن ظني؟!
ببساطة مطلقة لا أقبل أن أشقى بحسن ظني، وأقبل أن أدفع ثمن أخطائي، بل أحب أخطائي وأباهي بها لأنها علمتني وصقلتني، ولا أقبل حسن الظن حتى لو أسعدني، فالشقاء شقاء الغفلة، والسعادة سعادة المصادفة، وكلاهما لا متعة فيه!
المتنبي قال: وللنفس أخلاق تدل على الفتى..
نعم هذه الأخلاق تظهر ما إذا كان الأمر أصيلاً لدى الآخر أم تمثيلياً.. وبما أن مناهجنا القديمة علمتنا المتنبي مبكراً فقد حفظناه، وتخلّق بعضنا بما قاله الجد المتنبي، وأزعم أنني إلى اليوم لم يخب حكمي الأول، سواء من سماع اسم أو رؤية أو سماع حديث.. وإن كنت لا أتخذ مواقف تجاه الروح المريضة سوى التجاهل، فذلك لأنني أريد أن أحيا أنا بما أملك من روح أتعشقها حتى بأوزارها، ولم أراجع يوماً أي أمر، حتى في كتابتي لا أحب التجويد والمراجعة لأنني أكتب بالروح، وللروح شكل واحد، وبما أنني لا أراجع أي أمر فإنني لا أعرف الندم على أي أمر مهما كان هذا الأمر مهماً، فهو قد مضى!
لا يستطيع أي شخص مهما كان أن يخفي خليقته عن الناس وما يفكر به، وإن خفيت عن أحد، أو ظن أنها خفيت، فهي لم تخفَ، ولكن من فعل فعل ذلك لمصلحته الخاصة، أو لمطامح أو مطامع، أو خوفاً من مصلحة مرتقبة، أو خوفاً من عدا شريحة من المصلحيين من الناس.. ارفع ساقاً على أخرى فلن تعطيك مكانتك..
تحدث عن مصروفك وما تفعله فلن يستر جوعك اسرد خداع الناس وغدرهم، فكل قصصك لن تخفي أنك أنت الغادر والحاقد..!
ابتسامك أكثر يبرز الأنياب في الجوف ويكشف عهر روح ونتن إنسانية تزعم وجودها وهي لا وجود لها عندك..
وإن خالها تخفى عن الناس تعلم
يا للنفس والروح في اكتمال دورة الحياة، حقاً إن من يسكنها يدرك أنها من أمر ربي.. لغة الروح مهما أعطوها من مسميات وهي صدق ما بعده صدق فاتبعه ولو كان عقوبة، وتجنب الحاقدين ولو كانت ابتسامتهم ورقتهم وسع الكون.. هذا إن أردت أن تكون أنت
أكان سخاء ما أتى أم تساخياً.. والعهدة على الراوي.