مرت أمس الأول الذكرى السادسة بعد المئة لشهداء السادس من أيار، وقد اهتمت وسائل إعلامنا بها كالعادة، لكن كل ما سمعته وقرأته كان يلقي المسؤولية عنها على عاتق وزير الحربية التركي الطوراني جمال باشا. ولا شك بأن جمال استحق لقب «السفاح» الذي أطلقه شعبنا عليه، إلا أنه لم يكن المجرم الوحيد المسؤول عن إعدام خيرة مثقفي سورية وزعمائها عام 1916. والحقيقة أن الجريمة دبرت بليلٍ من جورج بيكو قنصل فرنسا في بيروت. وقد وثَّقت هذه المؤامرة في الجزء الأول من مسلسل «إخوة التراب» الذي فاز بالجائزة الذهبية في مسابقة المسلسلات الدرامية في مهرجان القاهرة الثاني للإذاعة والتلفزيون عام 1996.
وبما أن ذاكرتنا الوطنية ضعيفة، اسمحوا لي بأن أذكركم بالقصة كما أوردتها في «إخوة التراب» بالاستناد إلى عشرات الوثائق التي لا يرقى إليها الشك.
عندما انضمت تركيا إلى دول المحور في الحرب العالمية الأولى ضد الحلفاء، وبينهم فرنسا، قامت تركيا بإلغاء امتيازات متصرفية جبل لبنان وأمرت قناصل دول الحلفاء بالمغادرة. لكن جورج بيكو، الذي كان يعمل قنصلاً لفرنسا في بيروت آنذاك، لم يصطحب معه وثائق قنصليته، ومن بينها محاضر لقاءاته مع عدد كبير من أبرز الزعماء والمثقفين السوريين، بل وضعها في خزنة وخبأها كأمانة خلف جدار في القنصلية الأميركية!
وما يبرر سلوك بيكو الغريب هذا هو ما جرى قبل وخلال المؤتمر العربي الأول الذي أقيم في قاعة الجمعية الجغرافية في باريس في الفترة بين 18 و23 حزيران 1913 وضم 23 مندوباً عن لبنان وسورية والعراق وفلسطين.
أراد الفرنسيون من خلال عقد المؤتمر في عاصمتهم، أن يفرضوا وصايتهم على إرادة المشاركين فيه، آملين أن يتعاونوا معهم في بسط انتدابهم على البلاد بعد انتهاء الحرب، لكنهم فوجئوا بتوجهات المؤتمرين الوطنية الطامحة.
في رسالة تهديد واضحة لبقية أعضاء المؤتمر، تم العثور على جثة المفكر اللبناني نجيب عازوري الذي كان نائباً لحاكم القدس، وقد قتل (في ظروف غامضة!) داخل شقته في باريس قبل افتتاح المؤتمر العربي الأول. ولكي ندرك أهمية هذا الرجل يكفي أن نعلم أنه ألّف في عام 1904 كتاباً بعنوان «يقظة الأمة العربية» قال فيه: «ثمة مشروعان يتشكلان في المنطقة الآن: الحركة القومية العربية، التي تكافح لاستعادة الدولة العربية الموحدة، والحركة الصهيونية التي تهدف إلى بناء دولة قومية لليهود في فلسطين. هذان المشروعان محكومان بأن يتصادما وأن يتصارعا، وعلى نتيجة صراعهما يتوقف مستقبل المنطقة، بل مستقبل العالم».
لكن مقتل نجيب عازوري لم يرهب أعضاء المؤتمر العربي الأول، إذ أعلنوا بوضوح أنهم لا يريدون استبدال سيد بآخر، بل يريدون الاستقلال التام، وقد خيب هذا الأمر آمال مسيو فيشون وزير الخارجية الفرنسي فأرسل برقية سرية إلى قناصله في منطقتنا هذا نصها: «الحركة العربية انقلبت علينا، فادعموها علناً أمام الأهالي لكسب تعاطفهم، واسعوا لقتلها في السر».
كان بيكو يعلم أن الزعماء والمثقفين الوطنيين هم من سيقودون النضال ضد فرنسا عندما ستحاول فرض انتدابها على سورية ولبنان، ولهذا أخفى وثائق قنصليته داخل السفارة الأميركية، كي يستخدمها لاحقاً، ومع احتدام الحرب العالمية الأولى أوعز جورج بيكو في مطلع عام 1916 لشخص يدعى فيليب زلزل، كان يعمل مترجماً لديه في القنصلية الفرنسية، بأن يفشي سر صندوق وثائق القنصلية لرجال الخفية التابعين لجمال باشا، فقام جمال السفاح باستخدام تلك الوثائق كأدلة لإعدام واحد وعشرين مثقفاً وزعيماً وطنياً في ساحة المرجة بدمشق وفي ساحة البرج في بيروت. هكذا نرى أن جورج بيكو هو السفاح الحقيقي وأن جمال باشا لم يكن سوى مجرد جلاد لديه!