حدثني صديق قائلاً: وقعت عيني، وأنا أتصفح عدداً من مجلة الجغرافيا الوطنية، National Geography للعام 1964 عـلى صورة مثيرة للتساؤل: تمثـّل عـاملاً ألمانياً كبيراً في السن يدير آلة ضخمة، وبجانبها طاولة خشبية عليها مجموعة من العـلب ملفوفة بأوراق وأشرطة الهدايا.
يوضح التعليق عـلى الصورة أن ذاك اليوم هو الأخير لعاملنا هذا، فهو سيتقاعـد بعـد أربعين عام عمل في المصنع، وأن زملاءه طلبوا منه التوقف عـن العمل خلال فترة الغـداء ليتمكنوا من الاحتفال بتوديعه، لكنه رفض قائلاً بأن فترة الغـداء هي لراحته، وأن وقته بعـدها هو ملك المصنع، وأن عليهم، إن أرادوا الاحتفال معه، انتظاره إلى نهاية الدوام.
تأثر زملاؤه بموقفه الصادق الصارم وقرروا احترام رغبته، وانتظاره حسب رغبته في احترام العمل، حتى بعد أربعين عاماً من العمل، وهذا هو التطبيق الصحيح للأخلاق (ليتنا نراه عندنا).
أما في عـالمنا الثالث ما إن يتولى مدير أو مسؤول في مصنع أو هيئة أو جامعـة غـارقة في التخلف والفوضى حتى نجده يخصص أيام عـمل كاملة «لتلقي التهاني»، وهو بالكاد يعرف أسماء موظفي مكتبه والطريق إليه، بدلاً من تأجيل الاحتفالات لحين انتشال مؤسسته من الدرك المتدني الذي وجدها فيه! ولا أدري لماذا يحرص مدير أصلاً على قيام من لا يعرف من الأفراد للحضور لتقديم التهنئة له؟
تقليد أو عرف أو طقس تقبل المسؤول الجديد التهاني بتولي المنصب لم يكن يوماً متبعاً في مؤسساتنا، ولكنه أصبح الآن سابقة وقد تطور مع الوقت وأصبح عـرفاً، وسينتشر وباء «المجاملة» ويترسخ في مؤسساتنا التي كانت مثالاً للأخلاق الحميدة، أو هكذا يفترض، وقد يستفحل هذا الطقس الغريب في أغلبية دوائر الدولة.
كما نجد ظاهرة أخرى يتطلب الأمر صدور قرار بوقفها وتتعلق بذلك الجيش الصغير من الموظفين الموجودين لتوديع، أو استقبال مسؤول، والذي ربما ذهب لدولة جارة لفترة يومين أو أقل، أحياناً!
ننتقل إلى اليابان؛ لنتعـرّف إـلى «متلازمة» كاروتشي؛ وهي الموت من شدة الإرهاق في العـمل!
لا شك أن العالم يصاب بالإعجاب عندما يتعلق الأمر باليابان، فقد ارتبط اسم هذا البلد في مخيلة الكثيرين بالتميز وإتقان العمل بالخصوص. وتفرض الثقافة اليابانية على المواطنين نظام عمل صارماً لدرجة أصبح معها العمل مقدساً، وذلك لأسباب متعددة منها ما هو اقتصادي واجتماعي وحتى نفسي.
يحتل الاقتصاد الياباني المرتبة الثالثة خلف أميركا والصين كأقوى اقتصاد على الصعيد العالمي، إذ تمكنت بلاد لا تتميز بتوافر الموارد الطبيعية، من احتلال هذه المكانة العالمية المتميزة بالاعتماد فقط على العنصر البشري للوصول لهذا النجاح الباهر، بيد أن هذا النجاح ترافقه ظاهرة تدعى في اليابان بـ«الكاروتشي».
هي كلمة يابانية تعني الموت من كثرة العمل، وبرزت الظاهرة نتيجة لثقافة العمل اليابانية الصعبة، وتعود جذورها لستينيات القرن الماضي وبقيت تلك الثقافة متجذرة داخل المجتمع الياباني إلى يومنا هذا.
وأوضحـت الحكومة اليابانية أنه في السنة الماضية سجلت اليابان أكثر من 2159 حالة انتحار بسبب كثرة العمل داخل أروقة شركات البلاد، فيما سجلت سنة 2014 أكثر من 1456 حالة انتحار للسبب نفسه.
ننتقل للطرف الآخر: خلصت دراسةٌ أجراها اتحاد تنمية الموارد البشرية في مصر إلى أن معدل إنتاجية الموظف الحكومي العربي تتراوح بين (18) إلى (25) دقيقة يومياً.
ولم يستغرب مستشار اتحاد الموارد البشرية؛ بل رآها منطقيةً ونتيجة حتمية للعوامل المحيطة بالموظف الحكومي العربي.
وقال إن البيروقراطية، والبطالة المقنعة وعدم تأهيل الموظف، وتحديد مواصفاته القياسية (الوصف الوظيفي) عوامل مهمة في تدنّي إنتاجية الموظف العربي.
وزاد على تلك العوامل أسباب أخرى منها توزيع الوظائف من دون الالتزام بقواعد وقوانين صارمة، فضلاً عن تعيين موظفين لا تتناسب مؤهلاتهم مع الوظيفة التي يعملون بها ولا تحقق مصلحة سوق العمل، ولم ينس العامل الذي وصفه بالأخطر وهو «الوساطة والمحسوبية» في التعيين.
أقول هنا بالختام: إن تدنّي إنتاجية الموظف الحكومي لدينا هي «مأزق» لا يمكن الخروج منه إلا باتباع سياسات وخطط تتبنّاها إرادة جادة من الدولة نفسها.