لم يعُد الأمر سرَّاً، الولايات المتحدة تتربصُ شرَّاً بالمملكة العربية السعودية، قبلَ سنواتٍ من الآن كان مجرد ذِكر هكذا كلمات، قادر على تعريضِ صاحبها للسخرية، كيف يمكن للولايات المتحدة أن تنقلبَ على الحليفِ الأهم؟ أو كيفَ يمكن للجانب السعودي أن يخرج من بيت الطاعة الأميركي؟ لكن هذهِ العبارات وغيرها التي توصِّف حقيقةَ ما يجري في العلاقةِ بين البلدين، باتت أمراً واقعاً تحتاج الكثير من الواقعية والنظرة البعيدة عن أي موقفٍ مسبق من المملكة العربية السعودية لفَهمِا.
يوماً ما سألَ رئيس الوزراء الاسترالي مالكولم تيرنبول الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن السبب الذي يدفع الكثير من الدول المسلمة المعتدلة للتحول إلى الانغلاق والتطرف؟ فكان ردُّ أوباما بأن السبب هي السعودية وغيرها من الدول الخليجية التي موّلت المدارس الوهابية بشكلٍ كبير، وأقامت دورات لتدريس الرؤية المتطرفة للإسلام، فأعادَ تيرنبول السؤال لأوباما بطريقةٍ ساخرة: أليسوا حلفاؤكم؟ يومها تناسى الجميع بأن أوباما حكى عن الدول الخليجية وركز على المملكة العربية السعودية، بذاتِ السياق وقبلَ نهايةِ ولايته بأسابيع قليلة تلا أوباما فعلَ الندامة بحديثهِ الشهير لمجلةِ «ذي أتلانتيك»، يومها حاولَ أن يتبرأ من كل ما فعل بما فيها الأيادي الأميركية الملطخة بدماء الأبرياء في ربيع الدم العربي، أما تسعير الخطاب الطائفي في المنطقة والذي بدأَ مع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، والطريقة القذرة التي تم فيها إعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين فإن أوباما تبرأ منه بالقول: إن حلفاء أميركا في الخليج يسعون لجرِّها إلى صراعاتٍ طائفية طاحنة! وكان يقصد الصراع السعودي الإيراني والرغبة السعودية بعدم توقيع الاتفاق النووي مع إيران، كانَت رغبة الإدارة الديمقراطية التي كانت شبهَ ضامنة لنجاح هيلاري كلينتون في وجهِ دونالد ترامب تجهيزَ ما هو قادم بما يتعلق بمصيرِ العلاقة بالمملكة العربية السعودية، لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر فتأجلَّ المشروع حتى نهاية ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.
لم يكن أوباما فحسب يتلو فعل الندامةِ هذا بل كان قد سبقهُ بأسابيع الحديث الأول لوزير الخارجية القطري الأسبق وعرّاب دعم التنظيمات الإرهابية في سورية وليبيا ولبنان حمد بن جاسم صاحب عبارة «تهاوشنا على الصيدة»، يومها قالَ ابن جاسم حرفياً بأنه زارَ السعودية لتلقي الدعم من أجل سورية وجلَّ ما قالهُ السعوديون لهُ بأن دعونا نكن في الصفوف الخلفية ونحن معكم، ابن جاسم تدرَّجَ بتسريباتهِ حتى قالَ قبل أسابيع إن السفير السعودي الأسبق في الولايات المتحدة بندر بن سلطان طلب 2000 مليار دولار (!) لإسقاط «النظام السوري»، هذا التحول في تصريحات ابن جاسم لم يكن بريئاً، كان الأمر أشبهَ بالقنبلة التي أرادوا من خلالها إعادة التركيز على الدور السعودي وتبرئةِ ما عداها، فعلياً نجحت هذه التصريحات التي من الواضح بأن هناك من يومي لهُ تدريجياً بإخراجها، في فرضِ حالةٍ إعلامية تجعل من قطر وتركيا وحتى الولايات المتحدة حمامات سلام، لكن الفكرة اليوم تبدو أبعدَ من ذلك بكثير، فكيفَ ذلك؟
يدرك الجميع بأن المملكة العربية السعودية تعيش منذ سنوات ورشةَ عملٍ للتخلصِ من الكثير من الأعباء في المجالات كافة، من التبرؤ من الوهابية القميئة، مروراً بالعديد من القوانين التي فتحت المجال واسعاً للكثير من الحريات التي كانت قبل سنوات شبهَ مستحيلة، بما فيها دخول المرأة للملاعب الكروية، تحديداً أن هذا المنع لا يزال مطبقاً في دولٍ كثيرة، وصولاً إلى إعادة صياغةِ العلاقة بين الدين والدولة كالتعاطي بحزم مع كل ما يساعد في هدم التماسك المجتمعي بما فيها الفتاوى التكفيرية، كل هذا كان يتم بصمتٍ أميركي لأن الولايات المتحدة كانت تراهُ حاجة لتجديدِ صورة الحليف، لكن بالطبع لا يمكن للأميركي إقناعنا بأنه راضٍ عن هكذا تحولات، قد تبدو هذه المعادلة متناقضة لكنها أبسط من ذلك.
واهم من يعتقد بأن الولايات المتحدة تُفكر بصورةِ من تحالف كي لا تهتز صورتها، هذه كذبة كبيرة إذ كيف لمن قتلَ وشرَّد الملايين في هذا العالم أن يفكر بصورته، أليست هي ذات نفسها التي حالفت «تنظيم النصرة» في سورية وترعى أسوأ نظام فصل عنصري في العالم هي إسرائيل؟ بذات الوقت واهم من يفكِّر بأن الأميركي يعنيه المواطن السعودي إن امتلكَ حقَّه بشرب النبيذ أو حق تبديل معتقده، كل ما يعني الولايات المتحدة هي القدر الذي تخدم فيها هذهِ التفاصيل سياستها بابتزاز هذه الدولة أو تلك، لأن كل عملية إصلاح تقوم بها هذه الدولة أو تلك فإنها تسحب من الولايات المتحدة كرتاً لابتزازها من جديد.
مع الوقت، بدأت حالة الإصلاح التي تعيشها المملكة من الداخل، تشهد ارتداداتٍ لها على مستوى السياسة الخارجية، قد يكون الأمر نتيجة منطقية حيث لا يمكنك أن تحارِب الوهابية في السعودية وتدعم من يرفعها كخنجرِ طعنٍ في مكانٍ آخر، لا يمكن لكَ ببساطة أن تعيش الإصلاح الداخلي نحو المزيد من الحريات على المستوى الداخلي وأنت مقيَّد على المستوى الخارجي، من هنا بدأت الكثير من علامات الابتعاد السعودي في الكثير من المواضيع الحساسة عن الجانب الأميركي ليأتي المناخ الدولي الحار ويضع هذه العلاقة أمام الاختبار الأصعب والمنعطف الأخطر فهل تدفع السعودية ثمن التحولات التي تعيشها؟
منذُ أن وصفَ الرئيس الأميركي جو بايدن المملكة العربية السعودية خلال حملتهِ الانتخابية قبل عامين بالدولة المنبوذة، بدا واضحاً بأن القادم سيكون مظلماً، لكن ما يحاول الإعلام الأميركي تسويقه أن موقف بايدن ناتج عن عِداء شخصي مع ولي العهد محمد بن سلمان بسبب تورطه في قضية الخاشقجي، هي مرة أخرى محاولة أميركية لتقديم نفسها كمدافعٍ عن الضحايا في هذا العالم رغمَ كل ما اقترفته من جرائم، لكن ومع ارتفاع السخونة في الملف الأوكراني قبل بداية العمليات العسكرية، شكَّلَ ملف النفط وضمان التوريدات وزيادة الكميات لضبطِ الأسعار، الجانب الأهم في هذه العلاقة، لم يكن أشد المتفائلين بقدرةِ السعودية على التغريد خارج السرب أن يتوقعوا رفضها الدائم للمطالب الأميركية، اليوم يبدو التلويح بما هو أعظم أبعدَ من مجردِ «مواقف شخصية» فاستمرار الروبل الروسي بالارتفاع رغم كل ما تم فرضه من عقوبات نتيجة لقبول بعض الدول ولو ضمنياً دفع ثمن النفط بالروبل، قد يفتح العين على ما يمكن للصين والسعودية أن يقوما بهِ معاً، هنا كان لافتاً إصرار الكثير من الدراسات الأميركية على ربطِ فكرة العلاقة المستجدة بينَ كل من السعودية والصين وروسيا على تلاقي هذه الأطراف في ملف الديكتاتورية والاستبداد، هذه العبارات على بساطتها توحي لنا بالكثير تحديداً عندما نختصر فيها تحولات كبيرة في العلاقات الدولية ببروباغندا أميركية مكررة عن الديمقراطية وغيرها، فهل فعلياً السعودية قادرة على الذهاب بعيداً والدخول في معركةِ كسر الدولار؟
هو سؤال معقَّد لكنه حكماً يحمل الكثير من التمنيات بأن تكون الإجابة نعم، تحديداً أن ما تملكه المملكة من احتياطيات نقدية ونفطية قادرة فعلياً أن تجعل المعركة أكثر تعقيداً لكن هل سيسمح الأميركي بذلك؟
هنا يكمن السؤال الجوهري، إلى أي حد يمكن لحكام المملكة تحمل الضغوطات، تحديداً أن ما يجري من شيطنة للمملكة ومحاولة لصق التهم فيها بكل الجوانب تبدو أكثر إصراراً على تحقيق الهدف، لذلك فمن الواضح أن خط الرجعة لم يعد مفروشاً بالورود، هنا أعود لذاك اليوم الذي اندلعت فيهِ تظاهرات في العاصمة الإيرانية طهران تُطالب بتغيير النظام، وأثنى عليها دونالد ترامب، ويومها كتبت إنه وبمعزلٍ عن رأيي بإيران إلا أن حراكاً تدعمه الولايات المتحدة فإن واجبي الأخلاقي يحتم علي أن أكون على الطرف الآخر منه، بذات المعنى فإن حراكاً أو حدثاً قد يستهدف أمن المملكة تدعمه الولايات المتحدة اليوم فإن واجبي الأخلاقي أن أكون على الطرفِ الآخر منه، ونقطة على السطر.