دعونا لا نبتعد عن واقعنا، ولنتجه للبحث عن سبل تقاربنا العربي العربي، فماذا يفيدنا نظام عالمي جديد ونحن مشرذمون تائهون، أضعنا وجودنا لأكثر من عقد ونيف من الزمن، كانت نتائجه أكثر من خطرة، وباتت ظاهرة للقاصي والداني، الذي يحلل ما جرى ضمنها، وكيف هي مسيرة، وما نجم عنها من تصدعات وانهيارات وسقوط أنظمة عربية واحتلال مدن وتدميرها وفرط عقدها، باستثناء دمشق التي مزّقت إلى حدٍّ كبير جميع السنياريوهات الباحثة في السيطرة عليها، والتي عملت من خلالها دول كبرى وإقليمية على تنفيذها وتوسيع نطاقها من أجل تفكيك الفكر العروبي والقومي والوطني فيها، هذه التي ناضل أبناؤها من أجل الخلاص من التبعية وبناء ذاتها وتحصين وجودها، وقدمت أجيالها تضحيات جساماً، وهي تنادي بوحدة الأمة وحريتها وتضامنها، ولو في الحد الأدنى.
رغم كل المحاولات التي مازالت مستمرة لم تسقط دمشق، ولن تسقط، رغم ما عانته من آلام جراء ما أرادوا لها أن يصير، قدمت الشهداء والجرحى، وهُجّر الكثير من أبنائها، وتعرضت لأعتى حملات الإرهاب الهمجي والحصار الاقتصادي الذي صعَّب العيش على أبنائها، إلا أنه لم يقدر على إنهائهم، لذلك هم مستمرون.
حملت سورية آلام الأمة العربية وآمالها، وكانت ومازالت شعلتها ونبضها وبوصلتها والمتعيّن على العرب بعد ما حل بهم أن يقفوا معها، بكونها أحد أهم مرتكزات وجودهم التاريخي والحضاري، ناهيكم عن فاعليتها في منظومة الأمن العربي والإقليمي، وما نتج عن تجميد عضويتها في الجامعة العربية ومحاولة عزلها وعدم معرفتهم بروابط صداقاتها التي لم ترد أن تشكل بدائل لهم، من خلال أدبياتها الأخلاقية والسياسية، إنما من أجل أن يدركوا حاجتهم إليها، وأنها حقيقة قائمة رغم ما يجري من نزاعات على وجه الأرض.
السؤال المهم المطروح الآن: هل يستطيع العرب التحالف مع بعضهم بدلاً من كثرة تحالفاتهم وانتماءاتهم مع هذا وذاك؟ ومعه نجد أن الأهمية الكبرى تبرز من خلفية كل ما جرى ويجري، وأن العرب لديهم فرصة من خلال التفكير الجدي في إنجاز نظام عربي يحفظ لهم كرامتهم، ويدفعهم لتكوين قوة أمن سياسي واجتماعي واقتصادي وأمني وحتى عسكري، بدلاً من التوهان بين هنا وهناك والدخول ضمن التحالفات ضد بعضهم، بمساعدة دول أمريكا والغرب، تارة ضد العراق، وأخرى ضد سورية، وأيضاً ضد اليمن بعيداً عن انتظارهم لولادة نظام عالمي جديد، حتماً يكون فيه تآمرٌ جديدٌ على الدول العربية دون استثناء.
أيهما أهم؟ المنطق يقول: إن التفكير في القضايا الشاملة القريبة وحلها أهم بكثير من البحث في القضايا الكبرى والبعيدة المنال، ودول العالم العربي مطالبة الآن وأكثر من أي وقت مضى ببذل الجهود إن أرادت إثبات الوجود للتغلب على نتائج وآثار ذلك العقد المؤخر والمخلف لحضورها، والذي أعتبره من أهم أسباب الشرذمة والتخلف العربي، وإن الحاجة لرأب الصدع العربي في منظومة علاقته العربية العربية لا يتم من دون سورية، التي تعمل بإخلاص على رأبه، فهي التي تسهم في حل الصراع السعودي اليمني، وإن كان من خلف الستائر، وهي التي تريد عراقاً قوياً ولبناناً مستقراً، رغم ما تعانيه من آثار ضعفه، والكل يعلم كيف تستثمر صداقاتها مع إيران وروسيا، وتجيّرها لمصلحة أمن الأمة واستقرارها، فأين مكان سورية الآن بعيداً عن المغرضين ومكانتها الراسخة في صفوف الأمة وسعيها الدائم لبناء نظام عربي جديد قائم على التوازن والإيمان بأننا أمة تستحق الوجود والحضور، وأن احترام السيادة الوطنية يؤدي إلى منع أي تدخل خارجي في شؤونها، وينهي سياسة إملاء أجندات لا تلتقي مع تطلعاتها ومصالحها.
نظام عربي جديد يترفع عن صغائر الأمور، ويتجه لعلاج قضايا ذات أهمية قصوى، يكسر عزلة العرب عن عروبة سورية، وعن إيمانهم بعروبتهم، ويعيدها إليهم وهي بإيمانها بعروبتها جاهزة لتقديم كل ما لديها ليس انتصاراً لقضاياها التي تعتبرها قضاياهم، وإنما لغايات أسمى، أهمها إحياء الشخصية العربية بثقافاتها وأخلاقها وقيمها التي قدمت للبشرية ما لم يقدمه أحد لنفسه، ومادام أن العالم لا يفكر إلا بمصالحه، واللعبة الأممية اليوم تلعب لعبة المصالح، فلتكن المصالح العربية رغم اختلاف وجهات النظر هي العليا، وليكن ما أدعو إليه نظام وحدة المصالح، العالم ينظر إلى العالم العربي نظرة واحدة على الأقل، فلتكن نظرتنا إليهم واحدة، وضمنها يحترم كل منهم صداقات وعلاقات الآخر.