من المؤكد أن الصراع الدائر ما بين روسيا والغرب راهناً، يختلف جذرياً في معطياته، وكذا في إيديولوجياته ومنهجه، عن ذلك النظير الذي كان دائراً ما بين الأخير وبين الاتحاد السوفيتي زمن الحرب الباردة 1945 – 1989، حيث كان الخلاف بين الإيديولوجيات في هذا الصراع الأخير هو المرتكز الأساس في إدارة ذلك الصراع، وهو في جوهره يقوم على تناقض أساسي يتمحور حول الخلاف ما بين نظرتين تحملهما «الشيوعية» و«الرأسمالية» لكل نواحي الحياة بدءاً من وجود الإنسان على الأرض والعلاقة التي تحكمه بقوى الطبيعة، مروراً بالاقتصاد ودور رأس المال فيه، وصولاً إلى الدور الذي يجب أن يضطلع به الفرد في المجتمع، حيث ذهبت الشيوعية إلى إبراز دور «التربية» في حين ذهبت الرأسمالية إلى انتهاج مبدأ «الحرية المطلقة» كمبرر لا غنى عنه للإبداع ومراكمة الثروة.
اللافت هو أن نظام الرأسمالية الغربي، الذي استطاع إسقاط نظيره الاشتراكي بالضربة القاضية أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم، كان قد شهد انعطافة محورية في مساره مطلع السبعينيات من هذا الأخير، وتلك الانعطافة، كانت قد قادته، من حيث الشكل والمضمون، إلى نمط رأسمالي «محدث» يندرج في تصنيفه الأكاديمي تحت عنوان «الرأسمالية الريعية»، ففي مطالع السبعينيات ذهبت إدارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى اعتماد السياسة النقدية، القائمة على دولار منزوع التغطية كما كان الأمر عليه في السابق، كمفتاح لإنتاج ثروة افتراضية، وتلك السياسة، قامت على إغداق السوق العالمية بكميات هائلة من الأوراق النقدية، غير المغطاة إلا بـ«قوة الاقتصاد الأميركي» الذي راحت الإدارات الأميركية المتعاقبة تسوق له بقوة لا تلين، والسياسة نفسها لاقت نجاحاً خصوصاً بعد أن عمدت الولايات المتحدة إلى توطين قاعدتها الصناعية خارج أراضيها، وتحديداً على الضفة الأخرى من الأطلسي، الأمر الذي يمكن تلمسه في أن «ريع الدولار»، الذي نقصد به هنا الدخل الناجم عن استخدام الأخير كعملة عالمية، بات يحتل مركزاً متقدماً في الناتج القومي الأميركي حتى وصل فيه مطلع التسعينيات إلى ما يزيد على 25 بالمئة من ذلك الناتج.
اقتضت السياسات السابقة خطوات لاحقة بهدف التمكين للتحول من الاقتصاد «الإنتاجي» إلى الاقتصاد «الريعي»، وهو ما يمكن لمسه بالخروج من الاعتماد على التصنيع الذي كرسته «الثورة الصناعية» البادئة منتصف القرن التاسع عشر، والدخول في مرحلة «إدارة التصنيع» التي ظهرت عند إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغن، ثم تلتها خطوات عديدة عند من تعاقبوا على الحكم بعد هذا الأخير التي كان أبرزها قيام الرئيس الأسبق بيل كلينتون، منتصف التسعينيات من القرن الماضي، بتدمير آلية عمل النقابات العمالية التي أقام على أنقاضها مؤسسات تقوم بإدارة جني الأرباح في نظام بات قوام الإنتاج فيه يعتمد على «الريعية».
على الضفة الأخرى كانت الصين، التي انتقلت تحت قيادة دينغ هسياو بينغ، إلى نمط أفضى إلى «رأسمالية الدولة» و«اشتراكية المجتمع»، وهو الانتقال الذي مكنها من تجنب المصير السوفيتي عام 1991، فقد ذهبت باتجاه تطوير اقتصادها عبر الاستثمار في البنى التحتية وفي القاعدة الإنتاجية الزراعة والصناعة، وصولاً إلى قطاعي الطاقة والتكنولوجيا، والشاهد هو أن نجاح التجربة كان قد دفع بدول عدة مثل روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، إلى أن تحذو حذوها الذي قاد الجميع نحو رأسمالية إنتاجية تقف على النقيض من نظيرتها الأميركية التي باتت محكومة بالنهب وسيلة أساسية للحفاظ على التفوق، بينما الأولى، أي الرأسمالية الإنتاجية، كان نهجها الأساس يقوم على تطوير اقتصادات الدول التي تتشارك معها كأساس لا بديل منه لنجاح عملية التشارك الآنفة الذكر، حيث سيمثل مشروع «الحزام والطريق» الذي أطلقته بكين العام 2013 خير دليل على ذلك النهج الذي يرمي إلى تبادل المنفعة والتطوير ما بين المركز، أي بكين، والأطراف التي تطمح الأخيرة لأن تصل إلى أبعد نقطة في المعمورة.
في معرض الإجابة عن السؤال الذي يطرحه العنوان يمكن القول إن نمط الرأسمالية الإنتاجية يسهم في نهضة اقتصادات الدول التي تنتهج ذلك النمط عبر التمازج الذي يفرضه هذا الأخير ما بين الدولة المركزية، التي تقوم بتوجيه دفة الاقتصاد، وبين التنافسية التي يفرضها اقتصاد السوق، وكذا يسهم في نهضة الاقتصادات التي تتشارك معها بفعل ابتعاد «النمط» عن «الريعية» التي تفرض «النهب» واستنزاف ثروات الاقتصادات التي تدور في فلكها، ولعل ذلك ما يفسر ذهاب الصين في سياساتها البعيدة المدى إلى إثبات أن النموذج الرأسمالي الغربي، ليس هو الأمثل لمراكمة الثروة وبناء القوة، انطلاقاً من أن هذا النموذج الأخير يقوم أساساً على تثبيت نموذجه الاقتصادي وسيلة لتعميمه الذي يقود بالضرورة إلى تعميم الهيمنة الغربية على العالم.
حمل الصراع الدائر في أوكرانيا، من بين ما حمل، الكثير مما يصب في جعبة الرأسمالية الإنتاجية، فتسعير التبادلات التجارية، ولاسيما في قطاعات النفط والغاز والمعادن، كسر معادلة احتكار الدولار لتلك العملية، والفعل يمثل بالتأكيد ضربة «نصف قاضية» لهيمنة هذا الأخير، ومعه شقيقه اليورو، ومن حيث النتيجة فإن ما يجري يمثل شرخاً كبيراً في «مشروعية» رأسمالية الغرب، صحيح أن من المبكر القول إن عصر الدولار قد أفل تماماً، لكن الصحيح أيضاً هو أن دور هذا الأخير آخذ بالتقلص والانحسار، وهذا بالتأكيد سيشكل مقدمة لتقلص النموذج والهيمنة الأميركيين اللذين كان «الجنرال دولار» أساسياً في بسطهما.