زهير الصبان الفنان الرائد الذي حرمتنا متطلبات الحياة مما بشرت به تجربته .. مارس الفن على الجدران والأبواب والزجاج والمنسوجات … الفنان الذي تفانى في إنجاز لوحة أستاذه بعد رحيله
| سعد القاسم
ينتمي زهير الصبان (1913- 1986) إلى جيل الرواد الذين خاضوا المغامرة التشكيلية في ظروف اجتماعية واقتصادية قاسية، كما ينتمي إلى مجموعة الموهوبين الذين أجبرتهم تلك الظروف على التخلي عن أحلامهم الفنية التي لم تكن قادرة على توفير متطلبات حياتهم، فاتجهوا إلى مجالات لا تجعلهم بعيدين عنها، لكنها أيضاً لا تطلق حريتهم الإبداعية كما يشتهون. لذلك فإن اسمه يكاد يغيب عن المشهد التشكيلي السوري بعد مشاركاته في المعرض السنوي ما بين عامي 1954 و1959. مع أنه نال الجائزة الثالثة في معرض 1956 وكانت لوحته هي اللوحة الواقعية الوحيدة، حيث قدم المعرض جائزتيه الأولى والثانية لعملين من خارج الإطار الواقعي – الانطباعي (برهان كركوتلي، نعيم إسماعيل)، كما نال الجائزة الثانية في معرض عام 1957، وكان آخر معرض تعتمد فيه سياسة الجوائز. غير أنه بالمقابل لم يقم أي معرض فردي طوال حياته، والمعرض الوحيد المكرس له أقيم بعد وفاته في صالة إيبلا بمشاركة زملائه المقربين.
من دمشق البداية
تختلف الروايات حول مكان ولادة زهير الصبان، ففي حين يذكر بشير زهدي أنه ولد في حي سوق ساروجا في دمشق، يحدد ممدوح قشلان المكان بشكل أكثر تفصيلاً بأنه كان في حارة الخيزرانية المتفرعة عن سوق الصوف الموازي لسوق مدحت باشا (الشارع المستقيم)، وقد يكون مرد الاختلاف أن والد زهير الصبان الضابط في الجيش العثماني كان متزوجاً – إضافة لوالدة زهير- من امرأة تركية أسكنها في منزل بسوق ساروجا. وفي الحالين فإن الصبان قد نشأ في بيئة غنية بروائع الفنون التطبيقية التي تأثر بها وبجمالياتها والتي أيقظت الموهبة المستوطنة أعماقه في سن مبكرة. وعاد إليها ثانية بعد سنوات على طريقته الخاصة حيث مارس الرسم الزخرفي على الجدران والأبواب – بعد خبرة اكتسبها من معلم إيطالي في مصر – وعلى الزجاج والخشب والمنسوجات إضافة لزخارف التطريز، وتزيين الأثاث الحديث والأواني الخزفية والفخارية.
حوافز الإبداع
تعرف زهير الصبان في مطلع حياته على الوجيه علي ناعمة، وكان من هواة الرسم فشجعه على السفر للدراسة، ورافقه بالباخرة من بيروت إلى الإسكندرية – رغم غضب والده – حيث انتسب عام 1931 إلى معهد رسم خاص، وتعرف على فنان إيطالي يدعى بانيوتي كان يرسم جدران كنيسة الشواح، وعمل معه، كما التقى عدداً من الفنانين المصريين الرواد ومنهم حسن كامل الذي تبادل معهم الأحاديث الفنية والجمالية. مما أسهم جدياً في إغناء تجربته الفنية وثقافته الجمالية أبدع في مدينة الإسكندرية عدداً من اللوحات، وفي عام 1940 برفقة زوجته التي تعرف عليها هناك، وقد أنجبت له ولديه رياض وفيروز.
جيل من المبدعين
في دمشق التقى بعد عودته بعدد من كبار الفنانين الرواد أمثال محمود جلال وصلاح الناشف، وكانت أحاديثه معهم مصدر معرفته الفنية وعامل تطوره الفني الذاتي. إلا أن الأكثر تأثيراً كان توفيق طارق الذي غدا بمنزلة أستاذه وصديقه، وقد وصفه الصبان بأنه أول من تزعم الحركة الفنية، ورأى أنه الوحيد الذي اتجه اتجاهاً أكاديمياً بكل المقاييس، فقد درس في فرنسا بشكل منهجي صحيح. تعلم الصبان من توفيق طارق الدقة، وعمل مثله في دائرة المساحة (الكاداسترو) منذ عام 1950 وحتى تقاعده عام 1973. وعند رحيل توفيق طارق في بيروت قبل إتمام لوحته الشهيرة (موقعة حطين) أكملها زهير الصبان.
مصير لوحات
قد يكون مفيداً في هذا المقام الإشارة إلى حكاية منشورة في صحيفة إلكترونية عربية حول لوحة (معركة حطين) إذ تنسب هذه الصحيفة إلى د. غازي الخالدي (نقيب الفنون الجميلة الأسبق) قوله إن هذه اللوحة قد اختفت، «وتم العثور عليها مصادفة في سبعينيات القرن الماضي، في دكان حلاق في حي السمانة، وحدّثهم الحلاق أن الفنان كان يَحْلِق عنده بالدَّيْن، وتراكم عليه أجر سبع (حَلْقات) فأعطاه هذه اللوحة، وبعد مساومة طويلة اشترت النقابة اللوحة بثلاثمئة ألف ليرة وتم نقلها إلى القصر الجمهوري، ولا تزال فيه إلى الآن، وهذه اللوحة كانت ناقصة أكملها الفنان زهير الصبان».
الشيء الصحيح الوحيد في هذه الرواية المنسوبة لغازي الخالدي، التي لم يشر إليها قط في أي من مؤلفاته، هي المعلومة الأخيرة حول إتمام الصبان لها، أما ما عداها فينفيه أبسط تحليل منطقي للحكاية ذاتها.
الفن المهني
رغم إعجاب زهير الصبان بتوفيق طارق، وأسلوبه الكلاسيكي، وعمله مثله في دائرة المساحة التي تتطلب الواقعية والدقة، إضافة إلى مهارته الشخصية المدهشة في الرسم، التي تجلت في إتمامه لوحة معلمه. رغم ذلك كله لم يتقيد الصبان بأسلوب معلمه، وإنما اقترب من الاتجاه الانطباعي، مستثمراً إدراكه العميق للعلاقة بين الضوء والظلال، وبراعته في مزج الألوان، وقدرته على التقاطها من المشهد أمام عينيه، وإلى ذلك كله تمكنه من التصوير بها مباشرة من دون تخطيط مسبق. وقد اتسمت هذه الألوان بالحيوية والبهجة مع تنوع مواضيعها.
في عام 1956 نالت لوحته (منظر في بساتين الشاغور) الجائزة الثالثة في المعرض السنوي. وفي معرض العام التالي فازت لوحته (زهور) بالجائزة الثانية وقد كتب عنها بشير زهدي في مجلة (الحوليات الأثرية السورية) عام 1958: « نال فنان الطبيعة الصامتة زهير الصبان الجائزة الثانية بلوحته (زهور) التي رسمتها ريشته الناعمة الطيعة ببراعة فنية، فمن اللون الأبيض الوحيد استطاع السيد الصبان أن يرسم أزهاره البيضاء، مما يدل على خبرته العملية بالألوان».
القدرة ودلائل الإبداع
رغم ندرة ما وصلنا من لوحات زهير الصبان فإن هذه الندرة تقدم أعمالاً على مستوى عالٍ من الفهم التشكيلي، وتقدم أدلة حية على براعة مبدعها وخصوصيته، كما هو الحال في لوحته (الخريف) عام 1960، التي تمثل لحظة الالتقاء بين الواقعية والانطباعية محتفظة بجمال الواقع وسحر الانطباع، كما كان الحال في لوحات (الفرد سيسلي) وسواه من انطباعيين حرصوا على وضوح الأصل الواقعي في أعمالهم.
يمكن أن نسحب بثقة الرأي السابق على كل ما نعرف من لوحات زهير الصبان في العناوين الأربعة التي تندرج تحتها: الطبيعة (العودة إلى القرية – منظر- في طريق البساتين). والطبيعة الصامتة (بيض مقلي- زهور) والعمارة (جامع السنانية – في السوق). والحياة الاجتماعية (الكادحون- جرن الكبة في أرض الديار- الراعي- عين الخضرا). فهي جميعاً تشير إلى موهبة متميزة حالت متطلبات الحياة دون أن تقدم إلا القليل مما لديها.