أثارت تصريحات رئيس النظام التركي رجب أردوغان وعدد من مسؤوليه مؤخراً المتعلقة بالملف السوري ولاسيما دعم العملية السياسية وإعادة اللاجئين السوريين إلى وطنهم الكثير من علامات الاستفهام، وفتحت أبواب التكهنات حول دوافع هذا النظام الذي ساهم في شن الحرب على سورية وتدمير بناها التحتية وتهجير مواطنيها من خلال إنشاء ورعاية التنظيمات المسلحة ودعمها وتدريبها، للإعلان عن مثل هذه التصريحات البراقة إعلامياً في هذا التوقيت الذي لا يخلو من الاستثمار المبتز للنظام التركي.
إثارة الاستفهام والتكهنات تكمن في شقين رئيسين، الأول: هو ما زعمه وزير الخارجية التركي منذ أسابيع عن وجود تنسيق واتصال بين الجانبين السوري والتركي، وهو ما سارعت الدبلوماسية السورية لنفيه، والثاني: يتمثل فيما سماه أردوغان العودة الطوعية للاجئين السوريين، وهو ما يدفع كل متابع للسياسة التركية لأن يتوقف عنده وخاصة في مدى مصداقية كلمة الطواعية!؟ فضلا عن التساؤل هل فعلاً النظام التركي يستدير في سياسته ويسعى لتصحيح علاقاته أو تصفير مشاكله مع جيرانه والدول الإقليمية؟
في الحقيقة المبنية على مؤشرات ميدانية متصلة بالملف السوري، الجواب الحتمي والمطلق هو لا. وذلك لجملة من الاعتبارات التي يمكن سردها تتابعاً بما تشكل بجوهرها الدوافع التركية:
أولاً تصريحات النظام التركي بكل أركانه لا يمكن البناء عليها ولا يمكن أن تكون مؤشراً على تغيير طبيعة محددات السياسة العدوانية التركية تجاه سورية، لأنها وبشكل بسيط تتنافى مع الواقع الذي يشي باستمرار النظام التركي بخرق القانون الدولي وتجاوزه لاتفاقية «أضنة» في ظل استمراره باحتلال أراض ذات سيادة من جهة، ويستمر في دعم أذرعه العسكرية في الشقين الغربي والشرقي من الجغرافية السورية. بل الأكثر من ذلك مسارعته لتلميع التنظيمات الإرهابية ومتزعمها «أبو محمد الجولاني» وإنشاء كيانات عسكرية سياسية بديلة عن الدولة السورية أو تكون رديفة لها في الاستحقاقات الإقليمية والدولية.
ثانياً تنصب هذه التصريحات لتحقيق أهداف انتخابية داخلية وعدم إعطاء فرصة للمعارضة التركية لقلب الطاولة على حزب العدالة والتنمية، حيث تتجلى أبرز دوافع النظام التركي وأركانه في الاستفراد بالسلطة بعد ارتفاع أصوات القوميين الأتراك الرافضين لتواجد اللاجئين السوريين واستخدامهم كورقة مساومة وابتزاز من قبل المدعو أردوغان وحكومته في سياستهم ضد الغرب، وسط التراجع بالتأييد الشعبي لحزب العدالة والتنمية وخاصة الذي حصل بعد الانتخابات المحلية منذ عامين وخسارة الحزب لأهم المدن التركية وفي مقدمتها اسطنبول، وبعد انسحاب معظم أركان الحزب ومنظريه أمثال أحمد داوود أوغلو وعلي باباجيان وعبد اللـه غول، والانسحابات التي طالت الأعضاء المنتسبين للحزب والتي تجاوزت 944 ألف شخص، بالتوازي مع ائتلاف قوى المعارضة التركية بهدف إسقاط رئيس النظام التركي الحالي واتفاق أبرز شخصياتها في مؤتمر عقد بإسطنبول في شباط من العام الحالي على تبني خريطة طريق، أبرز ما تضمنته السعي لتوحيد الجهود للفوز بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع عقدها العام القادم.
ثالثاً سعي النظام التركي لتلميع صورته أمام النظام الدولي وتصحيح علاقاته مع الغرب، وذلك عبر نقل السوريين إلى أراضيهم والادعاء بأنه قام بحمايتهم خلال السنوات الماضية، وهو ما يعني وقف ابتزاز الغرب بفتح الحدود أمامهم.
رابعاً ادعاء النظام التركي وجود تنسيق أمني مع دمشق بالتزامن مع إعلانها إعادة اللاجئين للشمال السوري، هدفه تحقيق أكثر من هدف في وقت واحد، الهدف الأول يتجلى في رغبة النظام التركي بدك أسفين الخلاف بين الحكومة السورية وميليشيات قسد وجناحها السياسي مسد، وتصعيد التوتر بينهما في ظل تعزيز مخاوف قسد لإجهاض أي حوار محتمل. أما الهدف الثاني يكمن في إحداث تغيير ديموغرافي وفرض الأمر الواقع بإنشاء ما يسمى «المنطقة الآمنة» ولاسيما أن المناطق والمدن التي أعلن أنها تستعد لاستقبال نحو مليون سوري في جرابلس والباب وإعزاز وصولا لتل أبيض ورأس العين هي ذاتها المنطقة التي طالب بها أردوغان المجتمع الدولي بأن تكون كذلك منذ عام 2018 في خطابه داخل الجمعية العامة.
خامساً حصول النظام التركي على مليارات الدولارات بسبب ادعائه إنشاء مناطق صناعية وسكنية وبنى تحتية لإعادة السوريين، سواء من الجانب القطري أم من الدول الأوروبية أو من قبل المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، فضلاً عن مصادرة ممتلكات السوريين في تركيا وإجبارهم للانتقال لهذه المناطق وإبقاء من تم تجنيسه للاستفادة منهم في الانتخابات القادمة لمصلحة حزب العدالة والتنمية.
سادساً السعي لإنشاء مناطق سكنية يتوفر بها خدمات صناعية وتجارية وبنى تحتية وربطها بالمدن التركية، هدفه جعل المنطقة متميزة اقتصادياً ومعيشياً عن المناطق الأخرى التي تقع تحت سيطرة الدولة السورية. وهو ما تريد تركيا استغلاله لتكرار النموذج الذي طبق في شمال قبرص عام 1974 من خلال دفع هؤلاء في مرحلة لاحقة للمطالبة بإجراء استفتاء والانضمام إلى تركيا، في ظل الحصار الاقتصادي المفروض على سورية والذي يجعل من تأمين مقومات الحياة في غاية الصعوبة.
بناء على ما سبق يمكن التأكيد بأن المناورة التركية تجاه الملف السوري هي لتحقيق أهداف داخلية تخدم مصالح حزب العدالة والتنمية، ولاسيما أنها تترافق مع تسعير دولي حول أوكرانيا وانشغال القوى الكبرى في دائرة الصراع هناك، واللافت في هذا الإطار أنه منذ وصول اللاجئين السوريين إلى تركيا، شعر هؤلاء بسياسات يمكن وصفها بالمتقلبة والمتفاوتة من الحكومة التركية وبعض خصومها في بعض الأحيان، فسياسات الترحيب بهم في بداية الأزمة لا يمكن فصلها عن تصاعد خطاب الكراهية والعنصرية التي وجهت إليهم بعد العام 2018، وتزايدت التجاذبات حولهم مطلع العام الحالي، وهو ما يؤكد استمرار تسيس وتوظيف أحد وجوه الملف الإنساني السوري من أردوغان وأعوانه لتحقيق مصالح داخلية وخارجية من حيث استخدامهم كبيادق، تارة لجلب الأتاوات من الغرب، ولزيادة شعبيته في صناديق الانتخابات تارة أخرى.