ثقافة وفن

حديث الروح للأرواح

| إسماعيل مروة

يحلو حديث الروح في غمرة المادة، ويُستعذب حديثها مع القتل والظلم والقسوة، فهي التي لا تحمل سلاحاً أبيض أو أسود أو أي نوع من السلاح! هي المناجاة التي لا يدركها إلا الواصلون إلى متعة التوحد بين الذات والآخر، بين الروح والروح، هو الحديث الموجه بالحب ما بين روحين إحداهما غادرت والأخرى استقرت، وقد تكون المهاجرة المغادرة هي نفسها المستقرة اليوم بين جنبات!

يحلو حديث الروح، وقد يكون أكثر جدوى وفاعلية اليوم في تضميد جراح وبكاء قتيل وندب عاجز، وليست كل الأرواح أرواحاً قابلة لأن تكون شفاء وحباً ومنطلقاً لغد يسرح في آفاق غير مرئية لينهمر حباً في أرض عطشى للروح التي غادرتها قبل سِفْر من الزمن في سَفَر طال حتى ملّ من ذاته المترعة ألماً وحسرة..

والروح لا تخضع لحكم الناس والحياة والأشخاص والجغرافيا، ولا يمكن أن تقاس بقياس المرئي الظاهري الذي منه تؤخذ الأحكام التي تسيّر حياة الناس ومشكلاتهم، لأنها غير مرئية حار الشارحون في قول ابن الفارض (قلبي يحدثني بأنك متلفي) فهل هو للذات الإلهية؟ خاصة مع نسبة المعرفة ونفيها عن المخاطب وهناك من رأى أن الصوفي يتوصل إلى الذات الإلهية عن طريق شخص ملموس أو حالة مرئية، ومهما كان من حال، ومهما اجتهد الشرّاح تبقى حالة الروح الباحثة عن تلف الذات فيما تحب وتهوى هي الحالة المثلى التي نرددها في كل لحظة، وهذا ما لا يخضع لمقاييس العقل والمنطق في الهوى، إذ قد تصبح فتاة لهو كرابعة العدوية سيدة القرب في الروح، ويصبح شاب اللهو عبد الله بن المبارك بعد العشرين أكثر قرباً للروح والتصوف والزهد وما بالنا لو لم يتحول هذان من اللهو إلى العرفان؟ لاشك في أن الروح التي تتجلى في العارفين هي الأقدر على التجسّد سواء تحولوا أم لم يتحولوا، ومن هذه الروح أفهم ويمكن أن نفهم وصول الروح عند الأمير أحمد شوقي، وهو صاحب كرمة ابن هانئ، وهو صاحب اللهو والشراب، والذي بقي على حاله عمره، في حين لم يستطع الوصول غيره من أصحاب التقى، وذلك لأن الروح عنده مشبعة بالتوحد مع روح من أحب، وهو الذي تفوقت روحه، ولم يتفوق لسانه على البوصيري السابق في بديعيته:

ريم على القاع بين البان والعلم

أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم

روحه لم تحصر مدح الرسول بالبديعية المعهودة بالميم المكسورة والبحر البسيط، وانطلق في آفاق جعلت كل مدح من الروح بديعاً، وروحه التي عرفت موقعها هي التي ناجت حبيبها:

أبا الزهراء قد جاوزت قدري

بمدحك بيد أن لي انتسابا..

والروح هي التي جعلت شاعراً كالقروي يقول:

إذا بلغتم حمى النبي العربي

فبلغوه سلام الشاعر القروي

هل كان يقصد هذا السلام؟ الروح وحدها هي التي جعلته يسعى بلا قدم إلى الروح الأخرى التي يتوحد بها.. ومن سلو قلبي إلى سلو كؤوس الطلا حلقت روح شوقي في معارج لا يدركها الحس النقدي الحروفي، بل يعجز عنها عجزاً تاماً، ليس لوجودها وحسب، بل لتفوقها.. الروح جعلت متفقين في اللغة مختلفين في النهج يتوجهان إلى نقطة واحدة، فينهلان، ويبدعان.. وكانت الروح، والروح وحدها جعلت إقبال الشاعر الروحاني ينهمر في حديث الروح للأرواح يسري، وهو الذي لا يدرك فلسفة الحرف العربي والتركيب العربي، في حياته كان مباشراً وملهماً لمحمد علي جناح، فأخطأ وأصاب، لكنه في الروح قصد منازل أخرى بعيدة عن السراديب التي عاش فيها، فدفع أثمانها، وأدرك أخطاءه!

وحدها الروح هي التي تصنع عالماً من دهشة يصعب الحديث عنه، لأنه غير قابل للتصديق، فهل ندرك كأس الطلافي يد أمير الشعر وهو يناجي حبيبه معتذراً عن تجاوز القدر في المدح؟ بيد أن لي انتساباً.. إنه نسب الروح والفكر لا نسب الدم.. وروح القروي كانت تشعر أن السلام قد وصل وأن الروح ترد له التحية.

لا ينفصل عن الواقع، لكنه عالم من سمو ورفعة وترفّع ذلك العالم الروحاني، يدفعك إلى الاكتفاء بعوالم روح غير مدركة، والآخرون في صراع مزيف، لكن أرواح المسوخ تغطي لحظاتهم!

لا تشكل الروح واللوذ بها حالة ضعف، ولا هرباً ولا انهزاماً كما يحاولون تصديرها! بل هي حياة من التصالح والوصول إلى ذروة الحقيقة، وجوهر العلم، والانحياز إلى الكشف، ذلك الكشف الذي يكشف الغطاء عن الوهم، ليقول، من مات مات، ومن يحيا مات أو ما يزال، لكن الروح تهيم في سماوات غير مرئية فإما في سمو أو في دناءة، ولن يفيد أي تصنع أو تظاهر أو تمظهر في نفي الحقيقة..!

وحده الإنسان يعرف نفسه وزيفها، ويدرك حياته وغايتها، ويشعر روحه ومرتبتها.

عندما تحاكي الروح يأتيك الجواب من الخطاب الأول، فهي جنود مجندة.. وتبقى الأرواح في حالة حوار وتلاقح لحياة أرقى..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن