في حضرةِ الشهادة والشهداء دعكَ من التحليل، دعكَ من البحثِ في إستراتيجياتِ الصِّراع ومآلاتهِ لأنك ستبدو أضحوكةً في غياهبِ هذا المسرح الدامي، من يجلس ليتابعَ العربدة الصهيونية في السماء السورية أو العربدة المتأخونة على أرضها، والتي تزامنت هذه المرة في ريف حلب وحماة، ونتجَ عنها ارتقاء وجرح العشرات، لسنا هنا لنعرفَ منك بأن «العدو باتَ مفلساً»، عندها قد نسألكَ ببساطةٍ: إذا كان مفلساً ويفعل كل هذا؟!
ستبدو كمَن يفسرُ الماءَ بعدَ جهدٍ بالماءِ، ولكي تكون الصورة أوضح، فإنكَ ببساطةٍ ستبدو كمن ساهمَ باستشهادهم للمرةِ الثانية، اصمت فقط، فللصمتِ إيقاعٌ لا يتقنه إلا كل ذي حكمة، هو أحياناً يقول كل شيء بعيداً عن ترفِ العبارات ومجاهل الحروف، هل تعتقدونَ أن هناكَ من لا يزال يسمعكم؟ في حضرةِ الشهداء كل ما علينا فعلهُ فقط الإجابة عما تخفيهِ نظراتهم بعدَ أن أصبحوا صورة.. ومثَل!
إن قرأتَ في عيونهم الخوف فاعلم بأنكَ مهزوم من الداخل، لأن هناك من يحاول أن يطبِّق عليك الحكمة القائلة بأن النجاح التام ليسَ في الانتصار بالمعارك، بل كسرَ مقاومةِ عدوك من دون قتال، إيَّاكَ أن تتركهم ينالوا منك، وتذكَّر بأن من ارتقوا جعلوا من صدورهم دروعاً تردُّ عن هذا الوطن انكساراً جديداً، من قال بأن الورودَ لا تستشعرُ الخطر؟ لكنها تثقُ بأن رحيقها هو ترياقُ وطنٍ، فتيةٌ آمنوا بوطنِهم فزادهم يقيناً بأن الشهادةَ قدر وليست اختياراً، ارتقاء وليست انهياراً، أَبوا أن يتركوا عربَاتهم ويختبؤوا وغيرهم مازال يُخبِّئ حتى موقفهُ من وطنه، قضيته، ثوابته، هم عرفوا بأن الزمن الفاصلَ بين إعادة التلقيم والإطلاق كافٍ لجعلهم ملائكةَ الدفاع عن الموقف قولاً وفعلاً، وغيرهم لا يكترث لإعادةِ التلقيم ولا حتى الإطلاق تحديداً عندما تكون عبارات تبرير الخيانة والرمادية وحتى العمل في تلكَ المحطات الشريكة بالدم، أشبهَ بالصواريخِ التي تُستبدل تلقائياً، ليسَ عن عبثٍ قالوا إن تبرير الخيانة لا يحتاج للكثيرِ من الجهد، فقط عليكَ أن تكونَ بلا شرف! هذا الخوف الذي تراهُ في عيونهم ما هو إلا انعكاس ما في قلوبهم من خوفٍ على ما استُشهدوا لأجلهِ وليس بسببه، هي مقاربة قد لا يدركها من في قلوبهم وجلٌ من أن القادم ستكتبه دماء الأبرياء، وليسَ حروف الجبناء.
إن قرأتَ في عيونهم الألم فعليكَ ببساطةٍ قبلَ الحديث عنه أن تدركَ المسافة بين الحق والباطل، هي ليست كما تعلمنا على بعدِ أربعة أصابع التي تفصل بين العين وما شاهدت، والأذن وما سمعت، لكنها بصورةٍ أعمق هي جوهر الرؤية وما تحمله للعين من انعكاسٍ للنور قبل سماع الصوت، هل تسمع الرعد قبل تجلي البرق بصورةِ النور؟ كل هذا يعتمد على انعكاس ما تراه في قلبك ليجعلك تدرك ذات المسافة التي تفصل بين الحديث عن الألم في وجه الشهيد، والمتاجرة بهذا الألم.
لا تحاوِل أن تشرحَ باسمهم ما نعانيهِ من ألمٍ، لأننا جميعاً نعيشُ هذا الألم، فجميعنا لدينا شهداء لدرجةٍ بتنا فيها لا نميزُ بين صورةِ شهيدٍ وشهيد، فكلهم أشقاء، لكنهم ببساطةٍ لم يستشهدوا لتكون الناطق باسمهم أو تطرحَ تساؤلاتك عبرَ المتاجرةِ بشهادتهم، من حقكَ أن تسأل ماذا ننتظر ومتى سنرد؟ ماذا سيجلب لنا الصمتَ تلوَ الصمت غيرَ عباراتِ المماطلة من صديقٍ هنا ينبئنا بسقوط عدونا منذ عشرات السنين، وهو في الحقيقةِ يفاوضه ولو بشكلٍ غيرِ مباشر، وآخر مازال يرى أن هذا العدو هو الوجه الآخر للتسامح التركي القادر على نقل المنطقة إلى ساحةِ سلام، ماذا جنينا من كلا التسامحين إلا تحالف الغدر المتأسلم بالصهيوني المجرم، والنتيجة لم يدفع ثمنها إلا نحنُ، ومن لديهِ على مستوى الدول أثماناً قد دفعها فليتفضل بتفصيلها لنا، علماً إننا كسوريين نمتلك ذاكرة قوية وتحديداً في مفهومِ التضحيةِ والوفاء! لكن حتى في عصارةِ الألم تلك عليكَ أن تتذكرَ بأن العاطفة لا تصنع قرار دولة ولا دولاً، الألم ليس وحدهُ المحرِّض على الثأر وكتمَ الألم لا يعني ببساطةٍ أنكَ نسيتَ الثأر، لكن الثأرَ غير المدروس سيحول المأتم إلى مآتم، والجرحَ في القلب قد يستدعي تدخلاً جراحياً لإنقاذه عندها ماذا نكون قد جنينا؟
ختاماً، إن قرأتَ في عيونهم الإحباط فاعلم أنكَ تعانيهِ لا هم، هنا عليكَ أن تتذكر بأن ما من طريقٍ مختصرة للأماكن التي تستحق الزيارة، المكان الذي تتطلع ونتطلع إليه طريقه حكماً طويل ومُتعب، وحده الجحيم تبدو طرقاته أقصر بكثير مما تبديه إرادتنا والطريقَ إليه تبدو محطته الأولى شرارةُ اليأس أو فقدانِ الإيمان بأن الضربة التي لا تميتك تقويك، حتى لو تعددتِ الضربات فالحرب هي الحرب، خسائرَ وشهداء، إلا أن كان البعض مازال مقتنعاً أنها انتهت فيقعدُ ملوماً محسوراً وهو يكرر العبارة المُملة: لماذا هذه الخسائر؟
ربما قد لا يكون ذنبه أن بالغَ في الإحباط لأن هناك أساساً من يبالغ في تقييم مصطلح «الانتصار»، أو يبالغ في تقزيمِ قدرات العدو، فكيف وإن كان هذا العدو أساساً يبدو مركباً قد يبدأ بفتاوى تكفيرية تعيشُ بين ظهرانينا وممنوع المساس بها بذريعةِ أنها من أقوال السلفِ الصالح الذي لا نعرف له حتى الآن تعريفاً محدداً، وقد لا ينتهي مع الذي يريد استرجاع دولة أجدادهِ المزعومة من الفراتِ إلى النيل، عندها علينا أن نطلب من الذين يروجون لهكذا أحاسيس مقرونةً بعبارةِ «انتصرنا»، أن يكفوا عن هذهِ المهازل، لأن ردات الفعل السلبية الناتجة عن الإحباط من هكذا مغالطات في تقييم الواقع هي أسوأ بمئةِ مرةٍ من الواقعِ ذات نفسه، مع التأكيد هنا على بدهيةِ أن عدمَ العيش بوهم الانتصار لا يعني فقدانَ الأمل بهِ، هل قرأنا التاريخ لنرى ما الثمن الذي دفعته دول كثيرة كانت قابَ قوسين أو أدنى من الانهيار؟ لكن حتى جرعات الأمل هي أشبهَ بجرعاتِ العلاج من الأمراض الخطيرة، قد تكون بأثرٍ سلبي إن تجاوزتَ حدها أو كانت في غيرِ مكانها.
ندرك تماماً بأن العدوان الإسرائيلي الأخير كان ذا صدى كبير، وندرك تماماً بأن كل العبارات التي يمكن كتابتها قد لا تحيط بكل ما يدور في أذهاننا، لكن في مثلِ هكذا مواقف دعونا نتفق أن لا أحد يستطيع تقييم الأوضاع إلا الدائرة الضيقة التي كانت ولا تزال تدير كل المعارك بهدوء وروية، هذا الكلام ليسَ للاستهلاك الشعبي بل هو حقيقة مجردة بعيدة عن كل مظاهر التلميع وكل من يدعي امتلاكَ معلوماتٍ هنا أو هناك وهم كثر بالمناسبة، لا يستحق كلامهم الوقت الذي يضيع للسماع إليه، الحزن يلف سورية هذا منطقي، ولكن إياكم أن يلفنا الإحباط، فقط دعونا ننظر في صورِ شهدائنا ونتذكر بأن الشهيد مُستعار من الجنة، أما تكفي هذه العبارة للتأكيد بأن النصر لم يتحقق، وما زال طريقه طويلاً، لكنه حكماً آتٍ.
رحم اللـه شهداءنا على امتداد التراب السوري والخزي والعار لكل من باع وطناً وقضية، ولو بالصمت!