عقد «مؤتمر المانحين»، الذي ينظمه الاتحاد الأوروبي، جولته السادسة يومي 9 و10 أيار الجاري في العاصمة البلجيكية بروكسل، والأخيرة كانت من النوع الكاشف تماماً للمرامي التي ذهب إليها الغرب عندما تقرر إطلاق الفكرة، قبيل نحو تسع سنوات، ببيان فضفاض لا يخلو من «نزعة إنسانية»، بل وهو يرقب التداعيات الكارثية التي راحت الأزمة السورية تراكمها يوماً بعد يوم، وتطوراً بعد تطور، والفعل، أي تكشف المرامي، لم يأت بالكثير من الجديد الذي كان يتبدى من بين الشقوق، إذ لطالما كان من المؤكد أن تأثير الحالة الإنسانية في عملية صنع القرارات السياسية أمر شبه هامشي، أو بمعنى أدق فإن ذلك الأثر لا يظهر إلا في الحالات التي يمكن من خلالها تجيير ذلك الفعل في سياقات خادمة للمرامي والأهداف المرجوة من الصراع الذي استولدها، لكن الطبعة السادسة، التي حلت بالتزامن مع الحرب الأوكرانية التي ترخي بظلالها على المشهد الدولي، كانت فاقعة بدرجة لا تحتاج فيها للشقوق التي تبين منها دواخل الأشياء، فـ«النص» بدا واضحاً في مقدماته وكذا في العرض وصولاً إلى الخلاصات.
استبعدت كل من موسكو ودمشق من حضور المؤتمر، أما الأمم المتحدة فلم تحضر بصفة الرئيس المشارك بل اكتفت، كي لا يغيب دورها تماماً أو لربما بضغط أميركي، بالحضور على مستوى الخبراء، وهذا لوحده كافٍ للقول إن طبعة بروكسل السادسة قد انزلقت، بمفاعيل أوكرانية معززة لأهداف سابقة، أكثر فأكثر نحو تسييس للقضايا الإنسانية بدرجة فيها الكثير من التهور، بل والكثير من الصراحة، والمؤكد هو أن الولايات المتحدة قررت المضي قدماً في رسم سياساتها لسورية، وكذا سياسات أخرى عديدة، من منظار الصراع الأوكراني المحتدم والذي تتمنى له طول الإقامة والعمر المديد، وربما كان هذا هو ما يفسر قول المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية غير بيدرسون على هامش أعمال المؤتمر: «إن الحل السياسي للأزمة السورية لا يزال بعيد المنال»، وطبيعة المهمة الموكلة إليه وحدها هي التي فرضت عليه أن يردف قوله السابق بوجود آمال في أن تحقق جولة «اللجنة الدستورية»، المقرر عقدها في جنيف أواخر الشهر الجاري، تقدماً مهماً يكن طفيفاً، فالوقائع كلها لا تشير إلى أن تلك الآمال واقعية، بل ولا تحظى بنصيب ضئيل منها، وهل هناك صراحة أبعد مما ذهب إليه الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، حين قال: «بالتأكيد سورية ومعاناة شعبها قد لا تكون في بؤرة الأخبار بعد الآن».
ما تشير إليه الوقائع والمواقف، يشي بأن حدة الاستقطاب تجاه الملف السوري قد بلغ ذروة لم يبلغها في أي مرحلة سابقة، وربما لا تكون تلك الذروة هي الأعلى، فبيان الخارجية الروسية الذي جاء تعليقاً على استبعاد دمشق وموسكو، قال: إن المؤتمر قد تحول بعد فقدانه للرعاية الأممية إلى تجمع «شلة من الغربيين ليس له أي قيمة مضافة، لا سعياً إلى حل المشاكل الإنسانية الملحة في سورية بعيداً عن أي تسييس»، والتوصيف إياه عالي النبرة بشكل يجعل من مسألة التمديد للقرار 2585 القاضي بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية، الذي سينتهي في 10 تموز المقبل، أمراً صعباً، خصوصاً أن موسكو كانت قد وافقت على ذلك القرار، الذي تراه ينتقص من السيادة السورية، انطلاقاً من أن مرور المساعدات عبر «باب الهوى» الواقع خارج سيطرة الحكومة السورية، على مضض ولفترة مؤقتة على أمل أن تتغير المعطيات والمواقف، حينما يكون القرار قد استنفد مدة الـ12 شهراً التي وردت في بنوده، والفعل، أي عدم التمديد للقرار سابق الذكر، بات أمرا مرجحاً ما قد يدفع إلى انفجار الوضع شمال غرب سورية المملوء أصلاً بعوامل التفجير التي تراكمت في الآونة الأخيرة بفعل المشاريع التركية التي كان آخرها مشروع بلدات «الطوب» الذي أطلقته أنقرة والذي يهدف لإعادة 1,5 مليون لاجئ سوري إلى مدينة عفرين ومحيطها، والمشروع المعتد بالدرجة الأولى أقله من حيث التوقيت، بمرامي انتخابية للرئيس التركي، سوف يرخي بظلاله على الاستقرار في الشمال الغربي والشرقي، من البلاد.
كان توصيف الأمم المتحدة، من بين جوقة الغرب الذي حضر بثقل 55 دولة و22 منظمة ومؤسسة دولية، هو الأقرب إلى الواقعية، فقد قال المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية في سورية عمران رضا: إنه «يجب تحقيق التوازن بين المساعدة المنقذة للحياة وبين برامج التعافي لمساعدة السوريين»، والقول السابق يحتوي ضمناً رؤيا للمشكلة وحلولها، فالمساعدة يجب ألا تنصب على جعل السوريين «مدمني» مساعدات، وأن يكون قبولهم لها أمر طارئ وقصير، والمساعدة الحقيقية لهم يجب أن تنصب في مساعدتهم على إنتاج غذائهم بأيديهم، فيصبحون بذلك أكثر قدرة على التخلص من حالة «الإدمان» سابقة الذكر، وما لم يقله رضا بشكل صريح، وإن كان كلامه يحتمله، هو أن المساعدة الحقيقية للسوريين تكمن في رفع العقوبات المفروضة عليهم من قبل الغرب، الأمر الذي يكفل انطلاق عجلة التنمية السورية التي استطاعت تحقيق الاكتفاء الذاتي لشعبها في الوقت الذي كانت فيه دول كبرى تضطر لاستيراد سلع حياتية أساسية ما يمكن لظروفها أن تساعد على إنتاجه.