بعدما استطاع الروس التقاط أنفاسهم التي عانت منذ أواخر الثمانينيات، زمن ميخائيل غورباتشوف وصولاً إلى مرحلة بوريس يلتسين 1991-1999، التي فرضت حالاً من «اللهاث»، بدأ مع مطلع الألفية الراهنة بعيد تمكن الرئيس فلاديمير بوتين من تثبيت أركان حكمه ومده بمقومات الاستمرار، الفعل الذي سيصبح بارزاً في نهجه لاعتبارات تتعلق برؤيا مفادها أن النهوض من تحت الركام يستدعي وقتاً طويلاً لا انقطاع فيه.
راحت «البوتينية» تعمل على لملمة الجراح، بدءاً من ترتيب أوضاع البيت الداخلي، ومروراً بخلق فضاءات قريبة يطغى على قوامها الاستقرار والسكينة، ثم وصولاً إلى شق الطريق نحو تمددات جغرافية أبعد من سابقاتها في محاولة لاستعادة «الإرث» السوفييتي، وما يلاحظ على الفعل الروسي سابق الذكر، هو أنه كان ذا طابع لين يغيب عنه التشنج الذي كان بادياً عند «السلف» السوفييتي الذي كانت معادلات الاقتصاد والسلاح عنده محكومة بمقاربات إيديولوجية من النوع ثقيل الوطأة، ومن المؤكد أن «البوتينية»، التي رمت بتلك المقاربات جانباً، وهذا أمر طبيعي قياساً لانسلاخ 1991، كانت قد وجدت نفسها تمتلك أدوات أقدر على الحركة، وحرية أكبر في إيصال هذي الأخيرة إلى المكان الذي يجب أن تصل إليه، الأمر الذي سنشهد نجاحاته في شتى الاتجاهات، من نوع توطد العلاقة مع الهند والصين، مروراً بطرق أبواب أوروبا بعمقيها الفرنسي والألماني، ثم وصولاً إلى اقتحام عمق «الناتو» الذي تمثل بوصول السلاح الروسي إلى الأراضي التركية شديدة الحساسية لهذا الأخير، والنجاح إياه كان قد تمظهر أيضاً في محاولات موسكو للعب دور جديد في الصراع العربي- الإسرائيلي، حيث استطاعت الأخيرة إقامة توازن بين دفتي الصراع أتاح لها قيام علاقة وطيدة مع تل أبيب من دون أن يعني ذلك يباس العشب على الطرقات الموصلة بين موسكو، وبين رام الله وغزة.
كانت مرحلة البناء سابقة الذكر، التي راحت موسكو تعد لها، تهدف إلى تهيئة نفسها للقيام بدور محوري في الحلول المرتقبة للأزمات التي تحتويها الجغرافيا آنفة الذكر، حينما تنضج ظروف التسوية، أو بمعنى أدق حينما تقرر واشنطن فتح «بازار» التسويات، والفعل من شأنه، فيما لو حصل، أن يضع موسكو على أعتاب الندية في مواجهة واشنطن، وفي الغضون راحت واشنطن تبذل قصارى جهدها لجذب الأولى، أي موسكو، نحو التخندق معها في مواجهة الصين، التي تشي السياسات الأميركية منذ مطلع هذه الألفية بأن الأخيرة باتت تمثل هاجسها الأول لجهة نمو اقتصادها الذي سيفرض بالضرورة حالاً من تنامي الوزنين السياسي والعسكري على حد سواء، الأمر الذي ظهر بوضوح عند الرئيس الأسبق باراك أوباما، ثم عند خلفه دونالد ترامب، لكن الأمر سيختلف تماماً عند خلفهما جو بايدن الذي بدا يائساً من حدوث اختراق وازن على طريق بكين موسكو، واليأس عينه قاد الأخير إلى تبني إستراتيجية تقوم على فتح جبهة مزدوجة للصراع مع الصين وروسيا في آن واحد، على الرغم من الحمولات التي يفرضها الفعل، فالأرقام كانت تشير بوضوح إلى نتيجة مفادها أنه سيكون من الصعب على البنيان الأميركي تحمل التبعات التي سوف تستولدها الجبهة المزدوجة سابقة الذكر، خصوصاً في ظل وجود انقسام حاد داخل المعسكر الغربي، الحليف لواشنطن، تجاه فعل من هذا النوع، بل إن بعض الحلفاء راح يبدي نزوعاً للتفلت من القبضة الأميركية التي ضاقت أياديه ذرعاً بها.
وجدت واشنطن أن هذي النجاحات التي حققها الروس بطرق «لا تشنجية» تمهد بشكل قاطع للملمة روسيا لجراحها التي أثخنت بها، فراحت تضغط على الأعصاب الروسية بطرق استفزازية ظهرت في البدء عند سيل العقوبات التي فرضت على موسكو في عام 2014 الذي شهد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ثم راحت سياسة «تمدد الناتو شرقاً» تطغى على التفكير الأميركي بطريقة تؤكد أن ثمة قراراً اتخذ بوجوب مراكمة الاحتقان لإخراج الأعصاب الروسية عن هدوئها الذي استطاعت الحفاظ عليه، وفي السياق بدت كييف على استعداد تام للعب دور «الطعم» الذي أرادت واشنطن رميه لموسكو.
تظهر الأشهر الثلاثة التي انصرمت منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أن هناك الكثير من الحسابات الروسية كانت دقيقة، خصوصاً منها التداعيات المحتملة لهذي الأخيرة على الاقتصادات الأوروبية بالدرجة الأولى، ومن ثم نظيرتها العالمية على وجه العموم، مما يشي بانزياحات عدة، لكن من الملاحظ، مما تثبته التطورات وردود الأفعال عليها، أن ثمة حسابات لم تكن دقيقة، أو بمعنى أدق أنها جاءت بصورة تخالف الحسابات، في الذروة منها شد العصب في أربطة «الناتو» التي أصابها بعض الارتخاء قبيل الحرب، وعلى الرغم من أن الانقسام في هذا الأخير لا يزال قائماً، إلا أن «الأربطة» الآن بحال أفضل مما كانت عليه قبيل 24 شباط الماضي، ثم إن واشنطن استطاعت جزئياً الدفع بالصين إلى حالة هي أقرب لـ«الرهاب» التي ظهرت في امتناع بكين عن اتخاذ مواقف أقوى، والراجح اليوم هو أن العلاقة الروسية- الصينية هي بدرجة أقل مما كانت عليه قبيل هذا التاريخ الأخير، ناهيك عن أن واشنطن راحت، بمرور الوقت، تبدي قدرة على ضبط إيقاع المواجهة في الإطار الاقتصادي الذي شكل محور الرهان الروسي.
كنتيجة، تشير التحولات الجارية بعد مضي ما يقرب من ثلاثة أشهر على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إلى أن ولادة نظام دولي يقوم على تعدد الأقطاب لا يزال بعيداً، بل من المؤكد أن ذلك النظام قد ابتعد عما كان عليه يوم 23 شباط 2022.