ثقافة وفن

السلطان عبد الحميد هل هو شخصية إشكالية؟ … بين الأيديولوجية الدينية والقومية تضيع الخطوط التفصيلية!

| إسماعيل مروة

لعلّ شخصية السلطان عبد الحميد آخر السلاطين العثمانيين هي من أكثر الشخصيات التباساً في العصر الحديث، وذلك يرتبط بأمور عدة لعل أهمها: حركة التحرر العربي التي أرادت التخلص من الاحتلال مهما كان نوعه، ومهما كان تصنيفه، والرابط الديني والعاطفي الذي عملت عليه الدولة العثمانية وأكثر من عزف عليه السلطان نفسه، ومنها استعانة السلطان بعدد من رجال الدين العرب والمسلمين الذين أسهموا في تمييع الصورة الحقيقية أو القريبة من الواقع، وربما كان أهم الأسباب متمثلاً في الجانب العاطفي المرتبط بزرع الكيان الصهيوني في المرحلة نفسها، والروايات المتضاربة التي شيطنت السلطان أو جعلته ملاكاً حريصاً على عروبة فلسطين أكثر من العرب أنفسهم! وقد أسهم في غياب الرؤية والتقويم غياب النقاد المنطقيين البعيدين عن العاطفة العدائية أو العاطفة غير المنطقية بحال من الأحوال، فماذا كان السلطان عبد الحميد؟

السلطان والأوهام

أنجز الباحث المحامي الأستاذ علاء السيد كتاباً عن السلطان عبد الحميد ومجريات حكمه وسياسته ومواصفاته الشخصية، ودرس الوثائق والمصادر بعناية، خاصة علاقاته ورسائله ومذكراته وكتابات معاصرين له، ومما يحمد للكتاب أنه وقف بمنطقية عند مناقشة بعض الآراء التي كانت مخالفة لرأيه ومنطلقه دون أي نوع من الاستخفاف أو النيل من المنطلقات التي انطلقوا منها.. وللحق فإن التصنيف في الأعلام والشخصيات محفوف دوماً بالمخاطر، وما من قارئ لا يعلم كم الكتب والدراسات التي تناولت حياة السلطان، وهي نوعان: متعاطف ينظر إلى السلطان على أنه مفترى عليه وصالح ويمثل خليفة للمسلمين، خاصة من الناحية الأيديولوجية، ومعادية تنطلق من رؤية قومية تسلبه كل شيء حتى ما يتعلق بالمكر والخداع، ولو كان ضمن نطاق أسرته وسلطنته!.

المناقشة والعلمية

مرات عديدة استعرضت هذا الكتاب مذ تفضل الأستاذ السيد بإرساله وفي كل مرة كنت أستعرض من زاوية فوجدت في الكتاب مناقشات علمية تستحق الوقوف عندها بعيداً عن العواطف، ولم يستبعد من دراسته وقراءته مذكرات السلطان عبد الحميد نفسه، أو كتابات مريديه الذين كانوا مستفيدين منه، أو كتابات محبيه، ولكنه أخضعها لمقاييس الكتابة والمنطق لعله يصل إلى نتائج علمية.

رواسم الكتاب

الأستاذ السيد يقدم مجموعة من الرواسم التي تحدد شخصية السلطان ومن يروجون له، وعلى رأسهم الشخصية الدينية الإشكالية أبو الهدى الصيادي الذي ينتسب إلى الطرق الصوفية وليس إلى العلم الديني الحقيقي، والذي كان يصدر الفتاوى التي تناسب السلطان في ترسيخ حكمه وسلطانه، فيؤلف الصيادي الكتب ويصدر الفتاوى من أجل السلطان وحكمه واستبداده، ويغيّر في فهم الآيات الكريمة!

فلننظر أولاً إلى ما كان عليه الصيادي برأي عباس محمود العقاد صاحب العبقريات:

«كان هؤلاء الجهلاء يستمدون دعاءهم من كتاب «قلادة الجواهر» الذي يؤلفه الصيادي أو يأمر بتأليفه.. وكان الكواكبي ينعى عن العصر أن يرتفع بالجهلاء إلى مساند العلماء، ولا بضاعة لهم من العلم والورع إلا بضاعة الحيلة والدسيسة وصناعة الزلفى والتقرب إلى السلاطين والأمراء».

كذلك يصف عباس محمود العقاد علاقة الكواكبي بالصيادي الذي كان مقرباً من السلطان عبد الحميد، وكان يستخدمه من أجل ما يسمى بالأمة الإسلامية، وهناك إشارات عديدة إلى دور الصيادي وأمثاله في الترويج للسلطان عبد الحميد وتبييض صفحته في الحكم على أنه ملهم وظل الله على الأرض.

الباحث السيد عاد إلى المصادر والمراجع، ولم يلجأ إلى الإنشاء والحديث العادي وأخذ من مؤلفات الصيادي.

«كان الحل لدى عبد الحميد لتفادي الحد الأول لسلاح الخلافة الإسلامية هو الاعتماد على رجال دين مضموني الولاء لا يمكن أن ينقلبوا عليه».

«شجع السلطان الطرق الصوفية وقرّب مشايخها منه ومنحهم امتيازات»، ومن كتب الصيادي يقتبس «إن سياق الحكمة الإلهية ربطت جملة النوع براع ورعية».

«المتصدر فوق سرير النهي والأمر، القائم بانتصار كلمة ا لله في السر والجهر».

«يجيز الصيادي أن يقوم الإمام بقتال كل من يخرج عليه حتى لو كان سبب خروجهم حجة ما».

«الحاكم إذا ظلم الرعية فأقصى ما على الرعية فعله أن يدعوا له بصلاح أحواله حتى دون أن يذكروه بسوء حتى في سرهم».

وأحد المصنفين ينشر كتاب تعطير المشام للصيادي فيقول عنه «أسس نخبة من العلماء والصلحاء، وسارت بعلو أسانيده وخرقته الركبان، وعمر المعاهد والجوامع والزوايا والتكايا.. كان للعرب أباً رحيماً، ببذل جهوده ونفوذه لخيرهم، لا يكترث لبهرجة السلطان، ونشوة الجاه، والاعتزاز بحطامها وزخرفها».

فأي الرأيين يعتمد؟ هل الذي خطه الصيادي بنفسه، أم شهادات المريدين الذين اكتفوا بالزوايا والتكايا، ويرون أنه لم يمل من الدنيا وبهرجها والسلطان وقوته؟!

أزعم أن ما قدّمه الأستاذ المحامي السيد من الأهمية بمكان، فهو يأخذ من أقواله نفسه، وأغلب هذه الكتب ليست موجودة بين أيدي العامة الذين يطربون لما جاء في كتب ليست علمية إحصائية.

رسالة عبد الحميد

في ص 215 يقف المؤلف علاء السيد عند قضية مهمة وهي نص الرسالة التي يقال إن السلطان عبد الحميد وجهها للشيخ أبي الشامات شيخ الطريقة الصوفية في دمشق، والتي تنص على أن السلطان رفض أن يقبل رشوة ذهبية تساوي ميزانية دول من اليهود ليبيعهم فلسطين، ما دفع أعضاء جمعية الاتحاد والترقي إلى التآمر ضده، وعرض المؤلف إلى نشر هذه الرسالة من الباحثين في مجلة العربي عام 1972 وبمعرفته القانونية قام المؤلف بتفنيد الادعاء بصحة هذه الرسالة التي عادت إلى مصدرها التركي، وعند قراءة الرسالة ومقارنتها نصياً، ودراسة أسلوبها نقع على أدلة أخرى تخفف من الوثوق بها، فلا يمكن للسلطان أن يخاطب الشيخ بهذا الإجلال، وجملة المشايخ كانوا يعملون لمصلحة السلطان..

ودراسة هذه الرسالة (الوثيقة) من الأهمية بمكان لأنها تعطي السلطان البراءة، وتجعله سلطاناً صالحاً، وأنه دفع ثمن مواقفه الدينية والإسلامية المحافظة على فلسطين والقدس وسائر المقدسات..!

الأمر مهم للغاية، ويمكن أن نوازن بين تصرفات اليوم تدّعي المحافظة على الإسلام والحقوق، وقد ظهر للعلن وللناس جميعاً زيفها وكذبها، ومع ذلك ما نزال نجد من يمتدح هذه المواقفّ!

الحقيقة يمكن أن تجنح بنا إلى رفض هذا الادعاء، فسلطان مطلق فعل ما فعله بخلع أخيه ثم وصفه أخيه مراد المسكين، ولم يستطع مجاراة صديقه ومعلمه مدحت باشا كما أوضح ذلك الدكتور سامي مبيض في كتابه الوثيقة الصادر عن دار بستان هشام منذ أيام.. لا يمكن أن يكون بهذه الغيرة على المقدسات..

الحقائق وكشفها

الكتب والدراسات التي صدرت عن السلطان عبد الحميد كثيرة اختلطت فيها المشاعر الدينية والمشاعر القومية، واختلطت فيها مصطلحات الخلافة والاحتلال، وكم من شخص نحترمه يقف موقفاً مدافعاً عن السلطان، وكم من آخر نحترمه ينال منه، ولا شك في أن مفهوم الرابطة يجب أن نعيد النظر فيه، فإن كانت الرابطة الإسلامية تدفع كثيرين للدفاع عما يسمى بدولة الخلافة فإن عليهم أن يبرزوا وجه الخلافة المشرق، والعناية بالرعايا، وهذا لم يتحقق على الإطلاق إلا في زوايا وتكايا للتنابل والكسالى، ويحملون حتى عند العامة تعبير (تنابل السلطان عبد الحميد) ويأتي هذا الكتاب للمحامي السيد ليحاول أن يبتعد عن العاطفة والتأثيرات العاطفية، ومن حقنا أن ننقض أي رأي، خاصة عندما يرتبط ذلك بالوثائق والأحداث، وفي هذا العهد امتلأت سجون القلعة والسراي بخيرة الشخصيات العربية والمسلمة تحديداً، وعلى الرغم من مضي أكثر من مئة عام على الثورة العربية، ما نزال نسمع من يدافع، وصرنا نسمع أناشيدهم بالرغبة في العودة إلى بلداننا.. شكراً لإنجاز هذا الكتاب الذي حاول فيه الكاتب أن يرسم صورة بعيدة عن الأوهام، وقدّم لنا مجموعة من الآراء والكتب والنقول التي قد لا نجد مصادرها اليوم.. ولا يكفي أن يدّعي واحدهم حباً لأمر ما يخصنا- ولو كان حقيقة- حتى نغفر له سيرته، وأن ندبج المديح له، فلنقرأ سيرته كما هي، وليس كما رآها دعاة الرابطة الإسلامية وحدهم..

بقي أن أشير إلى قضية راجياً أن يتسع صدر صديقي الكاتب المحامي لها، وهي تتلخص في أنه بذل وقتاً ثميناً ومالاً وجهداً لإنجاز هذا الكتاب، ولن يخسر الكثير لو تمت مراجعة الكتاب لغوياً.

وبعد: كتاب مهم يحتاج منا قراءة لإعادة النظر، خاصة في هذه المرحلة التي يعاد فيها تشكيل العالم والمنطقة، لعلنا ننتقل من الانفعال إلى الفعل الإيجابي، ونعرف أن شخصيتنا أكثر أهمية من تبجيل الآخر، ولو كان مستحقاً للتبجيل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن