يبدو أن الجدل مستمر حتى الآن داخل أميركا وخارجها حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ما تزال بنفس القوة، والتفوق الذي كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، ويذهب البعض هنا إلى أن أميركا ما تزال القوة العظمى الأولى في العالم، وأن قدرة منافسيها لا تزال أضعف في أخذ مكانتها، أو مواجهتها، سواء من حيث القدرة على الحشد عالمياً، أم من حيث القدرات المالية والاقتصادية، وحتى العلمية، لكن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا كشفت أشياء كثيرة، وعديدة لا تتطابق بشكل كامل مع هذا التقدير، فها هو الباحث الأميركي المرموق فريد زكريا يكتب في «الواشنطن بوست» قبل أيام أن استخدام الأدوات المالية كسلاح قد يحرم واشنطن من هيمنة الدولار، ونقل الباحث الأميركي عن مصادر هندية وصينية وأوروبية، أن السياسيين في مناطق مختلفة من العالم يبحثون عن فرص لتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي من أجل الحد من تداعيات العقوبات المحتملة المماثلة لتلك المفروضة على روسيا، وبرأيه فإن الطريقة الوحيدة لهزيمة الدولار هي إيجاد بديل له، وحسب زكريا فإن حكومات كثيرة في العالم مثل روسيا والصين والهند والبرازيل، تبحث عن طرق لتقليل الاعتماد على أميركا، ويدلل على كلامه بالقول إن حصة الدولار في احتياطات النقد الأجنبي العالمية انخفضت من 72 بالمئة إلى 59 بالمئة، ليتساءل بسؤال كبير نطرحه نحن أيضاً وهو: كيف يمكن لدولة مصادرة ممتلكات خاصة، وكيف يمكن للناس أن يثقوا بها بعد هذه الخطوات؟
دورية «فورين بوليسي» ذات النفوذ، رأت أن الولايات المتحدة قد هبطت إلى مستوى «الديمقراطيات المعيبة»، إذ فشلت واشنطن في استمالة معظم دول العالم للانقلاب ضد روسيا، وبرأي كثيرين في العالم، والكلام هنا للمجلة الأميركية، أن الديمقراطية الأميركية هي ديمقراطية مريضة بشكل خطير، وتحتاج إلى شفاء نفسها أولاً، ولهذا فإن معظم الدول رفضت الانسياق خلف واشنطن، وأن بايدن أخفق في حملته لحشد العالم بين ديمقراطيين واستبداديين، لسبب بسيط حسب الـ«فورين بوليسي» أن الدولة التي تقوم بالوعظ وهي أميركا هنا، تحتاج لعلاج نفسها من المرض أولاً، واللافت أن الدورية الأميركية تؤكد أن دولاً كثيرة في الشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وأميركا اللاتينية وإفريقيا، غير مقتنعة بأن روسيا يجب فصلها من النظام العالمي.
من جانب آخر رأى البروفيسور بول بيلار الذي عمل في المجلس الوطني الأميركي للاستخبارات، وفي المخابرات المركزية الأميركية في مقال له في «الناشونال انترست» الأميركية أن الحرب الباردة التي أعلنت ضد روسيا لا تنذر بخير، ولا بلحظة انتصار وهيمنة قطب واحد، وأن الرد الغربي ضد روسيا ذهب بعيداً جداً، ووصل إلى حد إعلان بايدن أن أهدافه هي إضعاف روسيا، لا بل إسقاط الرئيس فلاديمير بوتين، وحسب بيلار فإن هذه الأهداف تؤكد ما يقوله الرئيس بوتين من أن العقوبات، والانخراط الغربي تستهدف روسيا ككل، وليس دعم أوكرانيا المعتدى عليها، حسب الرواية الغربية، فقط، ومن جانب آخر فإن رفع سقف الأهداف سيعقد أي تسوية ممكنة في المستقبل.
أتحدث عن هذه الآراء من قلب الإمبراطورية الأميركية وذلك لأكثر من غاية:
1- أن القناعة يجب أن تتعزز لدينا أن النظام العالمي القديم يتداعى تدريجياً، لا بل يؤكد كثير من الباحثين أنه قد ولى إلى غير رجعة، أي إن عصر الأحادية القطبية انتهى.
2- يجادل البعض أن أميركا لا تزال قوية وقادرة ومتفوقة على منافسيها، ولا يقتنعون أن منافسي أميركا لا يريدون إزالتها على عكس ما تريد هي، بل يريدون عالماً جديداً يأخذ بالاعتبار حجم قوتهم ونفوذهم ومصالحهم، وهو أمر لم تقتنع به بعد النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، كما أننا لا نتحدث عن ضعف أميركا، فاللعبة هنا ليست صفرية أبداً، وروسيا ليست الاتحاد السوفييتي كما يعتقد الكثيرون بما فيهم من هم في الغرب.
3- أن روسيا، ومن خلفها الصين، والكثير من دول العالم ترى أنه لا يمكن الاستمرار بهذا النظام العالمي الذي يقوم على الاستثنائية الأميركية والتعالي والعدوان، وتدمير الشعوب والمجتمعات، بل لابد من نظام عالمي يأخذ بالاعتبار خصوصيات المجتمعات والشعوب الحضارية والثقافية والسياسية، ويحترم نماذجها في الحكم، وإدارة شؤون الدولة، فأميركا المريضة حسب وصف الـ«فورين بوليسي» لا يمكنها التنظير على الآخرين، إذ لم تعد ذلك النموذج الجذاب أبداً، والذي كُشف كثيراً، ليصبح تمثال الحرية في نيويورك رمزاً للقتل والعدوان والإجرام، ورمزاً للعنصرية، ورمزاً للفاشية، فالدولة التي تمول مخابر بيولوجية لقتل الناس هي دولة مجرمة بكل المقاييس، وما حصل عليه الروس من وثائق في أوكرانيا يكفي لإحالة قيادات أميركية لمحاكم دولية.
4- من يريد أن يعرف أن نفوذ أميركا قد تراجع يمكنه النظر إلى لجوء واشنطن للأمم المتحدة، وهي التي احتقرت الأمم المتحدة، وغزت دولاً وشعوباً دون أي اعتبار لميثاق الأمم المتحدة، أو قرارات مجلس الأمن، فمتى كانت واشنطن تفعل هذا؟ إنه من مؤشرات التراجع والأفول.
5- أن النظام العالمي الجديد الذي نتحدث عنه لا يقوم على إزالة طرف لطرف آخر في هذا العالم وإنما على تكامل الدول، وتلاقح التجارب الحضارية والسياسية، واحترام الخصوصيات الثقافية، لأن ما يحدث في أوكرانيا والعقوبات الغربية ضد روسيا أظهرت أحادية التفكير الغربي، واستعلاءه، واحتقاره لثقافات وحضارات الآخرين، واعتقاده أن العالم هو الغرب، ومعهم حق لأنهم يهيمنون منذ ثلاثمئة عام على العالم، والآن يبدو أن عصرهم يأفل، ويتراجعون وما يجري محاولة للاستمرار بطريقة العمل القديمة والعقيمة.
6- أن مصلحة دولنا في المنطقة هو في ولادة هذا العالم الجديد، وتعرية نفاق الغرب واجب أخلاقي، ووطني، وخذوا مثلاً حالتنا في سورية لأسأل السؤال التالي: هل هناك أوقح من الدول الغربية في تعاطيها مع الشأن السوري، إذ تجتمع في مؤتمرات للحديث عن مستقبل سورية، وتتاجر علينا بالبعد الإنساني، ومأساة السوريين، لكنها تتناسى أنها هي من يطبق عقوبات إجرامية على الشعب السوري، وأن معلمها الأميركي يحتجز الثروات السورية وينهبها ويسرقها، ثم يقول إن الدولة السورية مسؤولة عما يحدث من تدهور اقتصادي ومعيشي!
7- أن موقفنا الداعم لروسيا لا ينطلق من منطلق التبعية كما يروج البعض، بل ينطلق من أننا أول من واجه هذه العنجهية الغربية والأميركية عندما أغلق الرئيس بشار الأسد الباب في وجه شروط كولن باول عام 2003، وأصبحنا منذ ذلك الوقت هدفاً للعقوبات، والحصار والضغط المتواصل وصولاً للعدوان المباشر في الحرب التي بدأت عام 2011، والتي مازالت مستمرة بأشكال مختلفة، سواء بالعدوان الإسرائيلي بين فترة وأخرى، أم بالاحتلالات القائمة، أو بدعم الإرهاب المستمر، وآخرها تعزيز المشاريع الانفصالية، أو محاولة إنشاء إسرائيل الثانية على حساب أرضنا، وأراضي دول الجوار، وهو المشروع الأساسي الذي يعمل عليه الإسرائيليون والغربيون.
– أن حماية أميركا المريضة لكيان الاحتلال الإسرائيلي الفاشي العنصري، الذي يراد من أجل استمراره تقسيمنا إلى كانتونات مذهبية وطائفية وإثنية، لهو أمر لن يمر، إلا بمقاومة تأخذ أبعاداً مختلفة منها المقاومة الثقافية والفكرية، بالقلم والكلمة والتوعية والتنوير، لتنظيف التشوهات التي نخرت وعي الناس والشعوب في المنطقة.
إن أميركا المريضة كما يؤكد أبناؤها ومحبوها، لا يمكن لها أن تستمر بهيمنتها، ونقل أمراضها إلى كل أنحاء العالم، فالصراع في جزء مهم منه مع هذه الامبراطورية المريضة حضاري ثقافي، والشكل العسكري الأمني الاقتصادي، الإعلامي هو الظاهر لدينا، لكن الأعمق هو أن هناك حضارات روسية وصينية وهندية وآسيوية وعربية ولاتينية، يجب أن تحترم وتتلاقح مع غيرها وتنقل تجاربها ونضالاتها وآدابها، وتتكامل ليصبح العالم أكثر استقراراً واحتراماً لهذا التنوع.
أما الاستثنائية الأميركية والتعالي والصلف واحتقار الدول والشعوب كبيرها وصغيرها، ومصادرة الأموال، والممتلكات، وغزو الدول، وتدميرها، وتحقير مواطني أميركا نفسها قبل غيرهم، كلها مؤشرات على أمراض أميركا التي يجب عليها أن تعالجها قبل أن تُنظر على شعوب العالم.
لدينا في ثقافتنا العربية- الإسلامية آية قرآنية تقول: «كَبُر مُقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون»، والأميركيون مرضهم الأساسي هو هذا، نفاقهم وكذبهم وأنانيتهم، عسى أن يتعلموا ويفهموا كما يقول عقلاؤهم، أما إذا استمر مجانينهم بهذه السياسة فيبدو أن النتيجة لن تكون خيراً عليهم، وعلى العالم.
إن نصف العلاج هو إدراك المرض، فهل تدرك واشنطن أمراض إمبراطوريتها التي يكشفها في كل يوم كُتابها وعلماؤها وباحثوها.