«يا ريل صيح بقهر»: أبو عادل مات … هل صحيح أن فصيح النواب أقوى وأجمل من شعره الشعبي المغنى؟
| فراس القاضي
فوجئنا، وبكينا، وذُهلنا، وكأننا لا ندري بأنه سيموت، مع أن الرجل أخبرنا منذ خمسين عاماً، بأنه «يوشك أن يغلق باب العمر وراءه.. يوشك أن يخلع من وسخ الأيام حذاءه»، ربما لأن قلة قليلة هم الذين يعلمون بأن الشعراء الحقيقيين يشبهون الزمن، والإيشاك عندهم يستغرق عقوداً وربما قروناً.
كانت جمعة حزينة أخرى، ولا يظنني أحدٌ أجدّف أو أهرطق، فالملهمون شعراء أيضاً ويحبون الشعر، لأنهم يعلمون أنه ليس شطرين أو كلاماً موزوناً أو مقفى فقط، بل كل جميل في هذه الحياة هو إحدى قصائد الكون، قصائد وجدها النواب وصحبه، فبسّطوها ونقلوها إلينا بلغة تفهمها قلوبنا قبل عقولنا، إذ ليس شعراً ذاك الذي تسمعه ولا يشهق قلبك، وبالنسبة لي، لا أحد جعلنا مداومين على الشهيق حتى كادت تتصعّد أرواحنا كما فعل النواب.
قسّم النواب حياة أغلبية محبيه إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل معرفته، ومرحلة ما بعدها، ولا أظن أن أحداً منهم لم يحاول – بينه وبين نفسه بالتأكيد – تقليد ولو جملة من جمله، ولم يتمن أن تكون هذه الصورة أو تلك له، وخاصة الشعراء منهم.
وهنا لا بد من التبرير لمن يقولون إن فصيح النواب أقوى وأجمل من شعره الشعبي، وذلك لأن صعوبة اللهجة العراقية، وخاصة تلك التي يكتب بها النواب، تمنعهم من فهم ومعرفة ماذا يقول تماماً، لذا يظنون ما يفهمونه أكثر، جميلاً أكثر، ومؤثراً أكثر، وهذا ليس دقيقاً، فقد عبّر النواب في شعره الشعبي عن الكثير من الحالات الإنسانية والوجدانية بطريقة لم يرق لها شاعر، لأنه كان يدخل أعماقنا، يطّلع على ما يجول فيها، ثم ينطق بدلاً منّا، لذا تكون صدمتنا أكبر، وتأثرنا أطول. نعم لقد فهم النواب باكراً أن للجنس البشري كله قلباً واحداً مقسّماً عليهم، فكان الساحر الذي يُخفي أرنبه في قبعته، ثم يُخرجه من قبعاتنا نحن، وظل يلعب هذه اللعبة حتى آخر كلمة كتبها.
كان مظفر النواب يُشبع الإحساس بالحالة التي يتحدث عنها لدرجة يظن معها المتلقي أنه من المستحيل أن يقال عنها أكثر من ذلك، وكان هذا يظهر في شعره الشعبي أكثر من الفصيح، ربما لأنه تحدث فيه عن الحب والألم والخذلان والمشاعر بشكل أكبر وأكثر، وترك لنا صوراً نستخدمها، وسنبقى لسنين طويلة جداً، فما الذي يعبر عن الخذلان والخيبة والقهر مجتمعة، أكثر من قوله في قصيدته الشهيرة وعنوان ديوانه الوحيد (الريل وحمد): (دك بيّ كل العمر ما يطفى عُطابي)، والعُطاب هو بقايا النار المشتعلة التي يضربها (يدقونها) من يريدون إطفاءها قبل مغادرتهم خشية من انتشارها. وما الذي يعبّر عن الانفتاح وتقبل كل الناس أكثر من قوله في قصيدة (بالخمر وبالحزن فؤادي): (أنا هذي طاولتي.. يقرأؤ من يرغب حسب ثقافته بالعشق، وقد يخطئ.. لا أستاءُ). وما الذي تستطيع أن تقوله لأطفال المخيمات مثلاً، أكثر مما قاله في ذات القصيدة: (أسمـعُ طفـلاً يثغـو في الـمهـد، أسمعـه يـغـفـو، ياااااا رب يـشبُّ له وطنٌ). وما الذي تستطيع قوله لحبيبة، مرّ عمرك بأكمله ولم تنتبه إليك، أكثر مما قاله في قصيدة (روحي): (عودان العمر كلهن كظن ويّاك يا ثلجي اللي ما وجّيت).
ورغم كل ما يتسم به شعر مظفر الغزلي من ألم وحزن، إلا أنه وفي أغلبية قصائده، لم يغلق باب القلب بوجه أحد، لكن عنفوانه لم يسمح له أيضاً بتركه مفتوحاً على مصراعيه لمن آذاه وقهره، فاختار أن يتركه موارباً، يستطيع من يريد العودة أن يدخله مجدداً، لكن بشرط أن يبذل جهداً في دفعه، فيكون هذا الجهد هو ما يحفظ ماء الوجه، فهو الذي يقول في قصيدة (متت) بعد أن يستعرض كل ما حلّ به، وكل اليأس الذي أصابه: (غلطتك يلـ جنت كلشي وما دريت.. غلطتك صلحها.. بعدك انت كلشي)، وهو الذي يختم كل مقطع في قصيدة (زرازير البراري) بـ: (حن وانا حن)، وهو الذي يختم قصيدة (مو حزن) بعد استعراض حالته الكئيبة جداً بـ: (لكن أحبك من جنت يا اسمر جنين).
أبو عادل الحبيب: القدس تنعاك، والجولان، وكل مقهور، وفي طريقك إلى الخلود، سترى شاباً متكئاً على طيارة شراعية، ينتظرك، تعرفه جيداً، هو ذاك الشاب الذي «ما أحست به غير زيتونة ألف قلب على كل غصن بها في الجليل». ولعلمك، بتنا جميعاً مثلك في دمشق، بلا حزنٍ ولا فرحٍ، يقودنا شبحٌ مضنى إلى شبحٍ، ومساء الجمعة، «سهرنالك دهر ماجيت» فبكينا حتى «رزّة وباب وشبيابيج خظرن من مدامعنا»، و(الريل) الذي قاسمك محطات عمرك جميعها، صاح بقهر صيحة العشق التي طلبتها منه منذ ستة عقود، لكنك كنت قد زرعت فينا كرسيك الفارغ في محطات الحزن.. وهُودَرِتْ.