ثقافة وفن

مظفر النواب من السجون إلى المنافي والغربة (1934- 2022) … هزم السجن وعاش بلا جنسية ودمشق مستقره .. كل الوطن العربي فإما وطن واحد أو وطن أشلاء

| إسماعيل مروة

حين يرحل رجل بمرتبة عليا فإن الحزن يخيّم لفقده، ولكن عندما يرحل مبدع يكون الفقد أكبر، وعندما يرحل مبدع وضمير أمة وشارع فالأمر أكبر وأصعب، حين يرحل الشاعر الكبير مظفر النواب، فإن شاعراً عراقياً مطبوعاً ومجدداً قد رحل، وإن شاعراً أممياً عن جدارة قد رحل.. فالأممية في اللقاء الأول والثاني بوجود فكر ماركس، وفي مؤتمرها اللينيني الثالث تمثلت بشخصيات فريدة ومتفردة لعلّ مظفر النواب من أهم ممثليها، وليس الذين تربعوا زعامات الأحزاب الأممية..

بين الأممية والوطنية

مظفر النواب الشاعر الكبير كان مثالاً قد لا يتكرر في المواءمة بين الأممية والوطنية، فهو الذي آمن بالشيوعية، والتزم المبادئ، وسجن لأجلها، وعُذّب، وعمل من أجل وصولها إلى السلطة، فكان ممن دفع الأثمان، وغيره لم يدفع شيئاً، فاضطر لتحمل سياط جلاديه، ولا يعرف هذا الأمر إلا من ذاقه وتابعه، ويكفي أن نعود إلى أحد أهم كتب تاريخ العراق الحديث (العراق- حنا بطاطو) لتعرف ما تعرض له الشيوعيون ومظفر واحد منهم، وإن كانت قصة هربه من السجن أقرب إلى الخرافة بأنه تمّ حفر نفق، وسواء كانت صحيحة أم لم تكن، فإن مظفر غادر السجن بعد عذاب شديد، ليختار الانخراط مع الناس البسطاء، ويمضي زمناً من حياته بينهم يلتمس الحياة ويتلمّس آلامهم.

بين الصورة والكلمة

من يقرأ لمظفر النواب فإنه يلمس تلك الحرارة في موضوعاته وفي كلماته، بل إن الكثير من مفرداته مباشرة بكل معاني المباشرة، وربما حوى الشعر بعض الشتائم والمفردات التي يستخدمها في العادة العامة، وتبدو هذه الألفاظ مرذولة ومرفوضة، بل إن مظفر لا يتوانى عن جعلها عناوين لقصائده، ومفاتيح لقصائده، لأن مظفر بانحيازه الشيوعي الحقيقي.

اختار الناس والحديث عن آلامهم، والتنظير لا يمكن أن يكون ملامساً لهذه القضايا وحين يستمع واحدنا لمظفر النواب أو يقرأ قد يستغرب ما في الشعر من مفردات، لكن مظفر الذي أمضى سنوات من عمره متخفياً بين البسطاء والفلاحين اكتسب لغتهم وأحب ألفاظهم، بل أراد من شعره أن يخلّدها، فدور الشاعر أن ينقل أو يترجم ما يريده الناس، وحتى بعض القصائد تحمل عنوان (بيان) و(خوازيق) وغيرها لأنها تنقل هموم الذين يتحدث النواب باسمهم

لا تخشوا أحداً في الحق

فما يلبس حق نصف رداء

ليس مقاتل من يدخل نجد بأسلحة فاسدة

أو يجبن

فالثورة ليست خيمة فصل للقوات

ولا تكية سلم للجبناء

وإياكم أبناء الجوع فتلك وكالة غوث أخرى

أسلحة فاسدة أخرى

تقسيم آخر

لا تخدع ثانية بالمحور أو بالحلفاء

فالوطن الآن على مفترق الطرقات

وأقصد كل الوطن العربي

فإما وطن واحد

أو وطن أشلاء

إحساس الشاعر المرهف الذي جعله يدق ناقوس الخطر، ويبرز الأمر للحاكم والمحكوم على السواء، فالوطن، ويستدرك، ليس العراق وحده، بل الوطن العربي إما أن يكون وطناً عزيزاً وعظيماً وإما أن يكون أشلاء، وكأنه يقرأ تاريخ المحاور المحور والحلفاء لعبوا بالوطن فلا تصدقهم ولا تصدق وعودهم.

رؤية الواقع وتوصيفه

لم يكن مظفر النواب مجاملاً، ولم يكن يكترث في توصيف ما يمكن أن يسبغ عليه الناس صفات، وما يمكن أن يراه الشعراء من محاسن، فالشعارات لا تعنيه من أي مكان انطلقت، فهو يقرأ الواقع، ويفرز ما يسمعه، ويخاطب ناشد الوحدة العربية ومرتجيها بكل وضوح وجلاء.

قالوا بالوحدة

لكن زادوا القطرية ذيلاً قبلياً

ورأيت الزبد الأبيض يذبل فوق كواهلهم

صعب الأمر عليك

تشوقت إلى الوقفة فوق الدفة متفرداً وحدك

يعلو الدولاب لعزم يديك

يحذر في مقطع آخر مما يمكن أن ينتظره، إن كان صادقاً في عزمه فأولاد الإفك أمامه ينتظرون لفعل كل شيء من أجل سادتهم، وهذا يرتبط بالقصيدة التي اقتطعنا منها من قبل، بأوامر المحاور، المحور والحلفاء، وإن تغيرت الأسماء فهي التي تفرض على أبناء الإفك، على المتآمرين، ولا يخفى استخدامه الموفق والموظف بشكل كبير لمعنى الإفك ودلالته في التاريخ العربي والإسلامي.. ليغدو ضعيفاً مهزولاً.

أولاد الإفك يبيعونك نصف سفينة عمرك

ثم يمنّون عليك بأن تخدم سيدهم

ابصق ثانية

هذي والله مكان البصق.. فابصق، تبكي غصباً

ما أقسى ما وصل إليه.. ابصق.. مكان البصق، والبكاء، غصباً، فهل كتب على الأمة كما يرى الشاعر أن تحارب في طواحين الهواء من أجل شعار أطلق ولا أحد يعمل من أجله..؟ الدولاب وشعارات الوحدة، والزبد وأولاد الإفك يجعلون الأمر محالاً.

تجليات الحب

لم يكن مظفر النواب مقتصراً على الشعر السياسي المباشر وغير المباشر وحسب، بل كان شاعراً مملوءاً بالشعر والصورة المعبرة، ومن ذلك بعض ما قاله في الغزل والمرأة إذ يقول:

سمعنا زقزقة بين الجسدين

كأن عصافير الدنيا

تتأهب للصبح

وليس لها هدب

فيما أخذت حكايات وشايات الليل

أما كفروا!

شاركتك بالخلق!

وما شاركت سوى فيما يتنزل من حسنك

في

وترتفع السدل

في هذا المقطع المختار، ومن الصعب اختيار مقاطع من شعر مظفر النواب نقرأ الصورة الغزلية الحسية المدهشة بجمالها وعفويتها وطزاجتها، إذ يصور التحام جسدي المتحابين بالزقزقة، ذلك لأن الحب حالة من الفرح، فاكتمل المشهد وهو يصوّر عصافير الدنيا تستعد للفرح، فكل ما في مفردات الدنيا يمكن أن تسعد بالفرح والحب.. والمقطع أقرب ما يكون إلى المشهدية، زقزقة جسدين ملتحمين متحابين وفرح في الدنيا، ووشايات من طرف آخر لكن كل ذلك لم يمنع لحظة الحب والالتحام، لترتفع السدل وتحمي صورة الحب التي رسمها الشاعر بمشهدية مميزة من الصعب أن تلتقط بعين أخرى.

بين الإلقاء والقراءة

حققت الأمسيات الشعرية لمظفر النواب كما حققت لغيره من الشعراء على الدوام، الشهرة والذيوع، فصار مظفر النواب من الشعراء المشاهير يدور اسمه على كل شفة ولسان، بسبب هذه الأمسيات، وطغى الجانب السماعي على الجانب القرائي الطباعي وهو ما أخّر طباعة أشعاره زمنياً قياساً إلى بداية مرحلته الشعرية المبكرة التي تعود إلى خمسينيات القرن العشرين أثناء انتظامه في الجامعة والحزب الشيوعي.. ولكن الأمسيات مع ما حققت لمظفر النواب من شهرة كان لها مخاطر ومحاذير:

1- رسمت صورة في أذهان المتلقين، خاصة غير المتخصصين، وهي صورة سلبية تربط ما بين حالة الإلقاء والثوب الشعري الذي اختاره شاعرنا الكبير من الألفاظ الدارجة وربما التي تصل إلى حد السوقية في نظر الناس، بل إن كثيرين يربطون بين صوت الإلقاء وموضوعه، وقد خسر الموضوع عنده الكثير.

2- أحدثت نوعاً من اللبس والإشكال ما بين العامية والفصحى، خاصة من نبرة الشاعر والإلقاء، وظن كثيرون بعض قصائده من العامية وهي ليست كذلك، لأن الشاعر يغرق في تفاصيل اللهجة العراقية المحببة، ويتلفظ بها بلهجة خاصة، خاصة وأن مظفر النواب برع في الشعر الشعبي العراقي والعزف على وتره الحزين, غنى له كبار المطربين، ما جعل الأمر يختلط.

3- جعلت شعره مباشراً بسبب طبيعة الخطاب، وهذه المباشرة وضعت مسافة بين المعاني العميقة ا لتي يريدها الشاعر، والمعاني المباشرة التي يأخذها المتلقي.

4- أعطت للشاعر الثوري المؤدلج صفة غير ملزمة، وإن وجدت أحياناً بأنه يقول الشعر للشتم والتعريض وما سوى ذلك، وهذا أمر غير محق لأن ا لشاعر كان ناقداً، وهذه من مهام الشاعر، فكيف إذا كان الشاعر مؤدلجاً وصاحب رسالة، ودفع الكثير من أجل مبادئه وسجن وعذب وحورب وسحبت الجنسية منه وتعرض لمحاولات اغتيال؟

دمشق الحب والمغادرة

كانت دمشق مستقراً جميلاً للشاعر الكبير مظفر النواب، وفيها عاش حياة هادئة مع أصدقاء أحبوه وأحبهم، وكان يسير في شوارعها بحب من الشهبندر وإليها، وما إن يغادرها حتى يعود إليها، الأدباء والمثقفون يحيطون به، وعبّر مظفر النواب عن حبه للشام كثيراً، هذه المدينة التي لم يكن يرغب بوداعها.. ولست أدري بالتحديد آخر مرة رأيته فيها في دمشق، وربما كان ذلك مع بداية الحرب على سورية، حين حضر متعباً منهكاً يساعده شابان ليجلس على طاولته في أحد مطاعم دمشق، كانت عيناه ساهمتين، لا يقول شيئاً، وحين سألته قال: يبدو أنني متعب ويجب أن أذهب إلى العراق.. غادر مظفر النواب دمشق، ولكن بقي محباً لها، وفياً لأهلها، شاكراً حبها له، غناها طويلاً، لكنه لم يبك عليها لأنه مؤمن بقيامتها، بكى لأجلها وحبها..

اليوم رحل مظفر النواب غريباً في أحد المشافي، لم تغمره بغداد الحب، ولم تضمه شام البلد التي أحب.. رحل مظفر النواب بعد أن نثر شعره في كل مكان، وترك صوته وصدى صوته في كل محطة مرّ بها..

الشاعر لسان قومه والمدافع عنهم

الشاعر يبقى ولا يبقى من أثر لجلاديه

حمل جنسية الشاعر وسخر من كل جنسية أخرى

وداعاً مظفر النواب وكلهم يتنازعون نسبتك

ومن يخافك اليوم اطمأن لرحيلك فصار يمتدحك

مظفر عبد المجيد النوّاب ولد في بغداد عام 1934.

درس في جامعة بغداد.

قال الشعر مبكراً.

تولى وظائف لم تدم طويلاً بسبب نشاطه السياسي.

تنقّل بين عدد من البلدان مصر- سورية- لبنان- ليبيا- أرتيريا.

كان استقراره الأطول في دمشق وبيروت.

توفي في 20 أيار 2022 في أحد مشافي الشارقة، الإمارات.

ترك ميراثاً شعرياً ضخماً.

اختط أسلوباً شعرياً خاصاً به لم يشاركه به أحد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن