قضايا وآراء

الانتخابات اللبنانية ودروس الطائفية السياسية: من أين يبدَأ خلاص هذا الشرق؟

| فراس عزيز ديب

ليسَ هناكَ من تعريفٍ للطائفية السياسية أصدقَ من القول بأنها احتكار التمثيل الطائفي بهدف المنصب السياسي، عندها يتحول الوطن إلى مزارِعَ متناحرة يبدو فيها العصب الطائفي هو الذي يحدِّد مكانة الإنسان ودوره في المجتمع وليس إمكاناته العلمية أو المهنية.

حتى لا نبدو وكأننا نتعاطى بتجنٍّ مع الحالة الإيمانية للفرد، دعونا نتَّفِق بأن هناك تمييزاً عقلانياً بين الانتماءِ الطائفي والفكر الطائفي، ففي الحالةِ الأولى يبدو الانتماء أقرب لترتيبِ الحالة الروحانية بين العبد والخالق، وهي حالة صحية لأن تفعيل الروحانيات في عقلية المرء هي السبيل الأهم للتخلص من الماديات القميئة، تحديداً تلكَ التي تلغي الآخر وتكفِّره، وهي تقدِّم درساً مهمَّاً حتى لتلكَ الفئة التي تدَّعي العَلمانية والانفتاح، وهي ترفض مشهدَ شخصٍ يصلي لربه، من قال بأن كل من ابتهلَ للهِ تعالى كان هدفه الدعاء على الآخر؟

لكن لنعترف بأن المسافة بين الانتماء للطائفة والفكرِ الطائفي، ضيقة جداً لدرجة يصبح معها الرقص على حبال هذا الفكر كمن يراقص الشياطين على أبواب الجحيم، فالخطأ هنا قاتل يجعل الفرد مجرد ببغاءٍ ينطقُ ويكرِّر كل ما هو هدَّام، هنا يأتي دور المجتمع والدولة بشكل متكاتف لمحاولةِ نقل الشخص من الروحانيات البسيطة إلى الروحانيات المتقدمة، لكن عندما تعجز الدولة عن هذهِ المهمة بل أكثر من ذلك، عندما تقدّم الدولة كل مقوماتِ هذا الانقسام المذهبي، عندها علينا نسيان التفكير ببناءِ مجتمعٍ متماسكٍ ومتكامل، مجتمعات كهذه منهارة وسبب بقائها على أرضٍ واحدة بمسمى واحد هو إرادة عابرة للحدود تراها أصغر من أن تُقسَّم.

إذن لنتَّفق بأن التفكير الطائفي هو السوس الذي يمزِّق هذا الشرق بكل تفاصيلهِ، بما فيها تلك الدول التي يحكمها منهج المذهب الواحد، هي أشبه بوجبةٍ مخدرة نتناولها في كلِّ مرةٍ نشعرُ بأننا في منتهى النشوة عندما نتحدث عن جمالية أي وطنٍ بفسيفسائهِ، وما خص الأوطان بالفسيفساء؟ دعكم من هذه الهرطقات وأبعدوا عني صورة «خوري وشيخ» يتعانقان ليخبرانا بأن اللـه يتجلى في نقاء هذا العناق، أخبروهم بأن اللـه يتجلى حيث يتعانق الصدق بالعمل، حيث يتآخى العقل مع روح الإبداع من دون معوقاتٍ وزوايا حادة تضرب عنق من لا يحسن التعامل معها، تخيلوا معي لو أن نصف علماءِ هذا الكون قُتلوا وسجنوا وكُفروا لأنهم رفضوا قوالب كهذه جاهزة ماذا ستكون النتيجة؟ ببساطة ستكون على صورةِ ما يعيشهُ هذا الشرقِ البائس، دمار وخراب مازلنا نبرره بتآمرِ الآخر من دون الأخذ بعينِ الاعتبار بأن الآخر ينجح بالتآمرِ حيثُ فشلنا بتطويقِ نقاط ضعفنا، مستسلمين لحتميةِ انتصارِ أبناء الحضارة، علماً أن أبناءَ الحضارة هربوا من أوطانِهم وماتوا عند من نظن بأنهم لا يمتلكون حضارة، كمواطنين فقط.

لم تكن المشكلة بأن المذهبية في هذا الشرقِ هي الفخ الذي يسعى أعداؤنا دائماً لإيقاعنا بهِ، لكن المشكلة أننا كنا كذلكَ الفريسة السهلة لذاك الفخ عن قصدٍ أو من دون قصد، تحديداً عندما كان هذا العدو يزيِّن لنا هذهِ المذهبية وكأنها طريق الخلاص، في لبنان كانت البداية، وهناك من افترضَ بأن هذا المشروع سيُدفن هناك لكن النتيجة ما هي؟ تخيل أن هناك من يسمي ما يجري في صناديق التقسيم المذهبي ديمقراطية؟ هناك من يذهب أبعد من ذلك ليعتبر أن ما يجري في لبنان من «عرس ديمقراطي» هو محط أنظار العالم، كيف أقنع أصحاب العقيدة الفينيقية مثلاً بأن الدولة الأوروبية التي يعتقدونَ أنها أمهم الرؤوم والتي زارها رئيسهم بعد انفجار بيروت ليبكوا بين ذراعيهِ، لم يدر أصغر موقع إخباري فيها بأن في لبنان هناك انتخابات؟ كيف أشرح لهؤلاء بأن من يظنونها حامية للمسيحية المشرقية تُباع فيها الكنائس أو تؤجر؟

يقول أحد استطلاعات الرأي: إن نحو الأربعين بالمئة من المستَطلعة آراؤهم يرون أن إلغاء الطائفية السياسية في لبنان يعني إلغاء الانتماء للطائفة، في الحقيقة لا نعلم ما علاقة الطائفة بوظيفة حكومية؟ من هنا تبدو هذه العقلية عصية على فهم الخلاص، هذا المشروع المذهبي أكملَ مساره بنقاط الضعف ذاتها، تخيلوا حتى في الجزائر التي عملياً تنتمي لعقيدة إسلامية واحدة تسللوا إليها في ساعةِ غفلةٍ، أحرقت النسيج الاجتماعي، حتى باتَ الأخ ينحرُ أخاه، ببساطةٍ ليسَ لأنهم أذكياء بل لأننا بارعون في تجميلِ الحقائق لا أكثر لنصلَ معاً إلى الجرح النازف الذي لم يندمل بعد، وهو العراق!

لنتخيل معاً بأن العراق الذي كان جيشهُ جيشاً عقائدياً بعيداً عن الطائفية السياسية، كانت تستهدفه المعارضات التابعة لهذهِ الجهة أو تلك، هل جلستم يوماً مع ضابطٍ عراقي سابق ليخبركم عن عدد الشهداء القادمين من جنوب العراق والذين تم ذبحهم على يد المعارضات بشتى أصنافها تحت الراية المذهبية؟ ألم يحارب العراقي إيران تحت راية الجيش العراقي بمعزل إن كنا اتفقنا مع هذه الحرب أم لا، لأن البحث فيها يتطلب منا التدقيق بروايات جميع الأطراف لنفهم ما جرى، لكننا نتحدث عن الجيش الذي كان عابراً للطوائف ثم أينَ أصبح؟ هل عرفنا اليوم لماذا الإصرار على حل الجيش العراقي بعدَ سقوط النظام السابق؟ هل فكرَ يوماً من شمت بسقوط النظام السابق لماذا دعمت كل المعارضات المتأسلمة التي تحمل الإسلام السياسي كمنهج ما يسمى قانون اجتثاث البعث؟ وبالمناسبة هذا القانون كان هدفه الأول والأخير نزعَ آخر مظلة واحدة تجمع العراقيين، القضية ليست مرتبطة بحزب ومحازبين نتحدث عن فكر عروبي يجمع العراقيين، سقطَ الجيش فسقط البلد بأكملهِ، واليوم وهو مقسوم مذهبياً ويحمل راية مذهبيته من يدّعون بأنهم مقاومون، لا يعيبهم إلا المجيء على ظهر الدبابة الأميركية، تخيلوا حتى هذا الجرم لم يعد مهمَّاً طالما إنك نجحتَ بمذهبةِ النظام السياسي في بلدك وجعلت من دستور بريمر واحة خلاصٍ لحمام الدم الذي دخل به هذا البلد، أليسَ هناكَ تطابق بين ما حلَّ في العراق وما أُريد لسورية؟

تبدو المناسبة لتناول هذا الأمر مهمة، تحديداً في ما يتعلق بالأجوبةِ عن كثيرٍ من الأسئلة التي يطرحها من نتفق أو نختلف معهم في إطار ما يسمونها الفرص الضائعة، لكن معظم من يتحدثون عن الفرص الضائعة تبدو أحياناً عدم واقعيتهم جزءاً من سلبياتِ طروحاتهم، قد نتفق مع كل طرح كان ولا يزال يرى بفصل الدين عن الدولة، هي الخطوة الأولى نحو تكوين مجتمع المواطنة، مهما حاول معارضو هذا النهج الإساءة إليه، إلا أن هذا الأمر لا يبدل في المعادلة شيئاً، فصل الدين عن الدولة لا علاقة له بتعويم المثلية، حتى هذا القانون لو كان بفرنسا مثلاً، قد مر عبر التصويت المباشر للشعب لسقط، لكن دهاء الرئيس الفرنسي يومها فرانسوا هولاند جعله يمر عبر البرلمان، بذاتِ السياق فصل الدين عن الدولة، لا يعني أبداً بناء مجتمعاتٍ ملحدة، هذا جزء من الدعاية المتأسلمة لا أكثر وتذكروا بأن الجميع في الدول التي قامت بهذا الفصل، يقيم شعائره الدينية بكل أمانٍ بعيداً عن التكفير أو الوعد والوعيد، ربما أن هذا الفصل هو إحدى الفرص المهمة التي تجاهلنا إنجازها تدريجياً كسياقٍ طبيعي لتطور الأنظمة السياسية والدساتير، لكن في المقابل ما لا نتفق معه هو حديث البعض عن الفرص الضائعة لإنهاء الحرب، من بينها القبول بمذهبة النظام السياسي في سورية على الطريقة اللبنانية والبريمرية، هناك فعلياً من يطرح هكذا أمور ولو بطرقٍ منمقة على طريقة تبرير الخيانة التي يتقنها من يظن نفسه مثقفاً، لدرجةٍ يبدو فيها من يروج لفكرة القبول بهذا الحل لا يفرق كثيراً عن الذي يروج لشعار الإسلام هو الحل، كلاهما يرى مذهبة الدولة على طريقته ويريد للدولة السورية أن تنساقَ نحوه، وعندما نقول هذا الكلام فلا نقوله من باب الحشو فمصطلح «طائف سوري» خرج أو أُخرجَ للعلن منذ الأشهر الأولى للحرب تحديداً مع وصول اللجنة العربية لتقصي الحقائق ولم يكن مجرد مزحةٍ، بذات السياق من يروج لهذا الانتحار يروج له على طريقة لماذا لا نصالح إسرائيل وينتهي كل شيء؟ وعندما تسأله: ماذا عن الدول التي صالحت؟ هل انخفض فيها عدد من ينامون في المقابر؟ هل توقف الشقيق عن التآمرِ على مُلك شقيقه؟ بذات السياق وماذا عن الدول التي قبلت الطائفية السياسية؟ لعل الجواب عن هذا السؤال هو ما ورد أعلاه ولا يحتاج إلى الكثير من الشرح كل ما نحتاجه فقط أن نكون واقعيين في طروحاتنا أياً كان اتجاهها حتى تصبح مقبولة وليست مجردَ استهلاك سياسي.

عن نفسي كنت ولا أزال وسأبقى أقول: من لا يتعظ من تجارب غيره سيدفع غالياً فقط لننظر إلى الواقع بلا رتوش، ولا خلاص في هذا الشرق إلا بفصل الدين عن الدولة، وهناك من يهرطق بمذهبة النظام السياسي!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن