قضايا وآراء

العولمة تغيرت إلى الأقلمة بعد الأزمة الأوكرانية

| الدكتور قحطان السيوفي

يبدو أن الحرب في أوكرانيا وقبلها جائحة كورونا، تشير إلى أن العالم يقترب من نقطة تحول نحو حقبة «بلا عولمة» ما يثير تساؤلات حول النظام العالمي الجديد ما بعد العولمة، ويقول أستاذ التاريخ في جامعة ميونيخ أندرياس فيرشينغ: «يمكن التفكير في الأمرين معاً: جائحة كورنا عام 2020 والحرب الأوكرانية في عام 2022، فيتولد لدينا شعور بأن شيئاً ما يتغير بشكل جذري، هل صحيح ما أثير عن أن الحرب في أوكرانيا قد دشنت نهاية ظاهرة العولمة، أم يحمل هذا الاستنتاج الكثير من التسرع؟ الواقع هناك تغيير يحدث؛ فنهاية عولمة الليبرالية الجديدة بدأت تظهر آثارها في الشركات والعمالة والتضخم، وفي مواجهة صدمتي الحرب والجائحة على الاقتصاد، يثير مستقبل العولمة تساؤلات وشكوكًا حول بعض مبادئها مع التخصص الإقليمي وتجزئة سلاسل الإنتاج والإمداد، كما تقوض الحرب في أوروبا الحجة القائلة بأن التجارة هي ناقل للسلام.

الارتفاع في معدل التضخم اليوم كان مدفوعاً بالحزم المالية الكبيرة واضطرابات سلاسل الإمداد خلال الجائحة، وسيستمر لفترة أطول بسبب الأزمة الأوكرانية واضطراب سلاسل الإمداد.

من المرجح أن تؤدي العقوبات الغربية على روسيا لارتفاع أسعار الغذاء والوقود وإثارة السخط والاحتجاجات حتى الثورات في العالم.

هل يرقى هذا إلى نهاية العولمة ودفع مستويات التضخم الوطنية إلى أعلى؟ هناك ثلاثة أنماط للعولمة؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وقد حصلت العولمة الاقتصادية على إشادات وانتقادات، ويقول فيرشينغ: ازدادت ظاهرة عدم المساواة في العالم حتى في البلدان الصناعية، من جانب آخر العولمة كانت لها «تداعيات سلبية» على البيئة والمجتمع.

الشركات المتعددة الجنسيات، نقلت عمليات «الإنتاج القذرة» إلى بلدان نامية وناشئة وبالتالي ساهمت في الإضرار بالبيئة، كما تظهر الاستطلاعات أن الأميركيين كانوا منتبهين إلى ما يحدث في أوكرانيا، أكثر مما كانوا سيفعلون بشأن قضايا الشؤون الخارجية السابقة.

يرجع ذلك إلى أن الأزمة أججت قضية التضخم، وخاصة تضخم الطاقة، وهذا تذكير بأننا الآن في عالم ما بعد أميركا، حيث لم تعد الولايات المتحدة بهيمنتها المتسلطة صاحبة القرار، وهناك قوى إقليمية جديدة بما في ذلك الصين وروسيا.

بالمقابل الصين أصبحت أكثر تركيزاً على الاقتصاد الداخلي باتباع إستراتيجية «التداول المزدوج»، إضافة إلى استخدامها المتزايد لسلاسل الإمداد باعتبارها قوة سياسية إضافة إلى التحولات في موازنة الأجور وأسعار الطاقة، ناهيك عن الدفع باتجاه رفع المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة.

كل ذلك يشير إلى أن الأقلمة، وليس العولمة، هي المستقبل، ويعني ذلك تغييراً عميقا في طريقة عمل الشركات وخاصة المتعددة الجنسيات التي تحاول جاهدة التظاهر بأنها يمكن أن تكون غير سياسية.

قد تجعل خطط الصين لـ«اقتصاد دائري»، وهو نظام اقتصادي يهدف إلى القضاء على الهدر والاستخدام المستمر للموارد، من عالم ثنائي القطب أمراً واقعاً.

وسيكون المستقبل هو الأقلَمة الأكبر، ويرى الكثير من المحللين أن الركود والإجراءات الحمائية وإعادة هيكلة سلسلة التوريد بسبب الوباء فضلاً عن تفكك أسواق السلع المترابطة بسبب حرب أوكرانيا، ربما نكون الآن في بداية نوع من تفكك العولمة.

ما يشهده العالم حالياً يشير إلى عودة «الجغرافيا السياسية»، وهي مسارات قد تؤدي إلى تراجع العولمة في ظل الحرب الأوكرانية التي جاءت عقب تحولات سلسلة التوريد المتعلقة بالجائحة، ولقد وضعت حداً للعقود الثلاثة الماضية من العولمة، وأصبح العالم يسير صوب عصر جديد له تداعيات اقتصادية وسياسية وجيوسياسية كبيرة، ويمكن أن نتوقع اتجاه المزيد من الشركات والحكومات لتكون مصادر مواردها محلية وإقليمية وليست عالمية.

إن الحرب تمثل نقطة تحول في النظام العالمي للجغرافيا السياسية، والواقع أنه ومع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، شعر المستهلكون بتداعيات الحرب من خلال ارتفاع أسعار الطاقة والمنتجات الغذائية بسبب فرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا.

يمكن العثور على نقيض العولمة في فترات الصراع والحرب، عندما تظهر الميزة الاقتصادية على أنها لعبة محصلتها صفر ويؤدي التضخم المدفوع مالياً إلى ارتفاع الأسعار، والعالم ينتقل من اقتصاد شديد العولمة إلى اقتصاد إقليمي ووطني، يكون فيه الإنتاج والاستهلاك أكثر ارتباطاً من الناحية الجغرافية.

ختاماً لعلَّ فيروس كورونا، وحرب أوكرانيا يشبهان زلزالاً كبيراً، بهزات ارتدادية ستعيد تشكيل العالم، وحسب نظرية الفوضى، يُستَخدَم تعبير «تأثير الفراشة» لوصف تغييرٍ صغير قد يؤدي إلى عواقب هائلة وغير مُتوقَّعة.

حشرةٌ ترفرف بجناحيها، وبعد أسابيع تُطلِق إعصاراً، وربما تُذكِّرنا السنوات المقبلة بأن فيروس كورونا وأزمة أوكرانيا كانا بمنزلة برق يسبق الرعد، صحيح أن تداعيات الحرب الأوكرانية، ومن قبلها آليات التعاطي مع جائحة «كورونا»، قد هزتا أركان ظاهرة العولمة هزاً قوياً، ومن التسرع القول بانتهاء ظاهرة العولمة بشكل كامل، لكن يمكن القول: لقد تغيرت طبيعة العولمة باتجاه الأقلمة والجغرافية، بعد اندلاع حرب أوكرانيا باتجاه نحو نظام عالمي جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن