برزت في الآونة الأخيرة العديد من المؤشرات التي توحي باحتمال أن تستعيد الأزمة السورية للعديد من عوامل التأزم التي قد تدفع بدورها للمزيد نحو استعادة المناخات التي سادت سني الأزمة الثلاث الأولى، بعد أن كان الظن أن مرحلة الحرب قد طويت، ومنها، ما ذكرته صحيفة «الاندبندنت» البريطانية التي قالت في تقرير نشرته الأسبوع الماضي إن القوات الروسية في سورية تعمل على تخفيض عديدها وصولاً، ربما، إلى انسحابها التام، على وقع احتياج تلك القوات في الصراع الدائر راهناً في أوكرانيا، ثم يضيف التقرير: إن إيران تقوم بملء الفراغ الناجم عن ذلك الانسحاب، وهذا، إذا ما صدقت تلك المعلومات، سوف يفقد عوامل التوازن القائمة ما بعد أيلول 2015 حلقة استطاعت أن تشكل عامل ردع كبير، وسداً في مواجهة تربص إسرائيل، الذي وإن ظل يمارس العدوان تلو الآخر، لكنه بقي، عبر وجود تلك الحلقة، عند ضوابط لا يخرج عنها، ومنها، أي من تلك المؤشرات، ما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر قبل أيام بعيد دخول الصراع الأوكراني مرحلة «العالمية» بشكل واضح، فكيسنجر، الذي غادر منصبه الرسمي قبل نحو نصف قرن، لا تزال أفكاره تغوص في عمق صناعة القرار السياسي لبلاده، قال إن «الولايات المتحدة ستكون مجبرة في المرحلة القادمة على تغيير الأنظمة الديكتاتورية والعسكرية في الدول الاستبدادية التي تتحالف مع روسيا»، وأضاف إن «أميركا لن تنسى وقوفهم هذا مع روسيا في هذه الظرفية الحرجة من التاريخ»، ومن المؤكد هو أن توصيفات كيسنجر لتلك الدول التي جاءت بشكل صارخ، تشكل محاولة لنزع الشرعية عنها، لكي يصار إلى استهدافها فيما الأسباب البعيدة لتلك المحاولة تكمن عند التراصفات التي راحت تتخذها تلك الدول حول «حرب عالمية مصغرة»، والمؤكد أيضاً أن سورية تقع في صلب، إن لم يكن في قلب، تلك الدول، وهذا يشير إلى مناخات تسعى إلى بلورة إستراتيجية أميركية تقوم أساساً على تدفيع الدول التي جاهرت بدعمها، أو حتى مجرد تفهمها لموسكو، «فاتورة» باتت تراها مستحقة الدفع، والطبيعي أن تلك «الفواتير» المستحقة على الدول الصغرى ستكون من النوع عاجل الدفع في حين تبقى نظيرتها على الدول الكبرى مؤجلة الدفع لاعتبارات معقدة تدفع نحو ترقب ظروف أخرى تكون أكثر مساعدة عند «الجابي»، وما يزيد من خطورة هذا المؤشر هو أن الأميركيين ماضون في محاولة تضييق الخيارات أمام الروس التي شهدت في الأيام القليلة الماضية «هندسة» جديدة، كانت تقف وراءها، دون شك، أصابع «المعمار» الأميركي الذي أجاد تسويق «تصميمه» لإغراء كل من فنلندا والسويد بتبنيه كمشروع لـ«البناء» الجديد، دون أن يعني ذلك إلغاء لدوافع ومخاوف، ذاتية كانت قد تولدت مؤخراً لدى الاثنين بفعل احتمال توسع الصراع الدائر في أوكرانيا ليطول الجغرافيا المحيطة بجغرافية هذا الأخير، وعلى الرغم من أن الفعل، أي انضمام السويد وفنلندا إلى حلف «الناتو»، قد لا يضيف الكثير للوحة المواقف التي اتخذها البلدان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي في مجملها توحي بنزوع نحو خنادق الحلف على الرغم من سياسة الحياد المعلنة لدى كليهما، إلا أن الانضمام الرسمي له ملحقات يمكن لها أن تفضي إلى مسارات أخرى، وهي تتعدى المشاركة في مناورات الحلف الذي كثيراً ما حدث في غضون العقود الثلاثة الماضية، كأن تعمد، فنلندا مثلا وهي الأهم، إلى استقبال قاعدة عسكرية تحوي أسلحة نوعية على أراضيها، وهذا يستدعي بالضرورة رداً روسياً حاسماً، وما يهمنا هنا هو أن هذا التصعيد الأميركي تجاه روسيا ستكون له تداعياته المباشرة على أزمتنا.
ثالث المؤشرات هو النتائج التي آلت إليها الانتخابات النيابية اللبنانية التي جرت 15 أيار الجاري، فعلى الرغم من أن تلك النتائج لم تكرس في نهايتها ثنائية حداها «منتصر ومهزوم» لكن ثمة تغيراً في الخريطة السياسية للبلاد يمكن لحظه، والفعل ما كان له أن يحدث لولا وجود العديد من «المؤثرات» الخارجية التي تراوحت بين المال والإعلام وصولاً إلى «وشوشات» السفارات التي جهدت في غضون الأيام التي سبقت اليوم الانتخابي للظهور بمظهر «أم الصبي»، ومهما يكن من أمر فإن الحدث اللبناني يمثل مؤشراً إلى وجود نيات، لأطراف عدة، للتأثير في مسار الأزمة السورية بعد أن استطاعت الجهود السورية، مدعومة بحلفاء إقليميين ودوليين، تحييد التأثير اللبناني في تلك الأزمة مروراً بمحطات فاصلة عديدة.
خروجاً على كل المؤشرات الثلاثة السابقة، التي على شاكلتها المزيد مما يمكن تصنيفه بدرجة أقل، يمضي المبعوث الأممي غير بيدرسون في أدائه للمهمة المنوطة به كمن يريد القول: إن الريح تجري بمشيئة الملاح، وإن التيار يغلبه السفين، لنراه يحط الرحال في دمشق، التي زارها يومي السبت والأحد الماضيين، في محاولة لخلق أجواء إيجابية تمهد الطريق لحدوث اختراق، أياً يكن نوعه وحجمه، من خلال الجولة الثامنة من اجتماعات «اللجنة الدستورية» المقرر عقدها أواخر أيار الجاري في جنيف، وفي السياق كان يذهب نحو «مديح» مرسوم العفو الذي أصدره الرئيس بشار الأسد عن «الجرائم الإرهابية» في 30 نيسان المنصرم، دون أن يغفل «مغازلة» المعارضة عبر الحديث عن أن أهمية المرسوم تكمن في أن «لا يكون انتقائياً»، ومثل هكذا «مغازلة خطرة»، التي بدا أنه مضطر لها، تجعله بعيداً عن ممارسة «النجاح» في إمساك العصا من منتصفها، التي وقع في مطباتها مرات عديدة، انطلاقاً من أنها، أي المغازلة السابقة الذكر، تضعه في موقع من يحاول ممارسة فعل «الرقيب» على حكومة قائمة وهي تمتلك كامل المشروعية لأن تعفو، وتستثني من لا يستحق العفو، في حين أن من «يغازلهم» لم تكن لديهم «مراسيم عفو»، ولا استثناء، تجاه من تراصفوا في خنادق الدولة والاستقرار والمحافظة على البنيان.