الحزن يحاصرني، يهاجمني في مخدعي، رشقات الحزن تخترقني لكنها لا تقتلني، فقط تريد أن تذيقني كل أنواع الألم والوجع، كي تتلذذ بشقائي وألمي وحزني.
رشقة تأتيني من ريف دمشق الجنوبي حاملة رحيل ورود وطيور وأحلام كانت ترسيماً بريشة بني البشر ليوم أنقى وأرقى وأحلى.
رشقة من ريف مصياف، ومصياف كلها ريف، وأخرى من طرطوس ورابعة من حلب ورشقة من درعا، كلها تعلن موسم رحيل العصافير انشقاق التربة عن أزاهير شقائق النعمان، كلها رشقات حزن يسكن في القلب والنفس ويترك جراحاً في الجسد والروح.
رصاصة حزن تأتيك من الشارقة لتعلن أن المغرد المسافر سيعود جثة إلى أرض العراق بعد رحلة طويلة مع الكلمة الجريئة والجارحة التي لا تستثني أحداً وتطلق النار على جسد الخيانات والفساد في أرض العرب الواسعة.
وتأتي طلقة من القاهرة، فالحزن لا يأتي منفرداً، يرحل واحد من الفنانين الذين وزعوا الحب والبهجة على الناس، الحزن قرر تعذيبي برحيل من أعرف ومن لا أعرف إلا بالاسم والصورة.
هكذا يلون الموت أيامي ويسكن الحزن في ساعات عمري يوزع أزاهيره السوداء على عباد اللـه الصابرين واللاهثين وراء لحظة فرح هاربة من جحيم النار والموت العابر للحدود والهويات والولاءات.!
ليس للحزن هوية، إنه لغة يومية تأتي من دون إنذار، ومع أننا عوّدنا أنفسنا على ألا يفاجئنا شيء مهما كان قاسياً وفاجعاً، لكننا نتفاجا بهذا الحزن الذي يفرض نفسه علينا كالقضاء والقدر ولا نستطيع إلا أن نسلم بالأمر المحتوم ونرفع راياتنا البيضاء ونعترف بعجزنا عن وقف مسلسل الأحزان الذي يهاجمنا من البر والبحر والسماء كاتباً رسالة موتنا بدمائنا دون الحبر.
و… على الرغم من كل هذا الحزن الذي يحيط بنا من كل جانب، لا يمكننا أن نفقد أملنا في فرح آت مهما طالت أيام الحزن، وقد قرأت أخيراً بيت شعر يقول:
رأيت الدهرَ مختلفاً يدورُ……. فلا حُزْنٌ يدومُ ولا سرورُ
وتقول حكمة قديمة أيضاً:إن هذا الوقت سوف يمر، لكن الفرح يترك ذكرى منقوشة في الذاكرة، والحزن يترك ندبة في القلب والروح لا تشفيها الأيام، وما يخفف الألم قدرة الإنسان على النسيان، أي نعمة النسيان، فلولا هذه النعمة لساد الحزن والبكاء طوال العمر.
وإذا هاجمنا الحزن بقوة وشراسة خلال أيام قليلة فإننا نملك نعمة النسيان وقوة الأمل بغدٍ سيحمل بشائر فرح وطاقة حب ودروباً جديدة مفتوحة الجمال والخير والعدل حيث حاولوا نصب مشانقه في كل العالم.
لن نسمح أن يغزونا اليأس، وسنظل نأمل بالفرح والحب، دون أن ننسى أحزاننا التي لونت حياتنا في فترة من تاريخنا الشخصي والعام، فذكريات الحزن تدفعنا لصنع أفراح بحجم وطن نخرج منها إلى حلم يراودنا منذ بدء التاريخ، ولا بد أننا سنصل إلى ما نصبو إليه مهما كبرت أحزاننا وتحولت إلى رشقات تخترق أجسادنا وتترك لنا خيار البقاء والحياة التي تنتصر دائماً.