صحيح أن ذاكرة الشعب الفلسطيني هي مليئة بالفعل المقاوم والتضحيات على الرغم من سيرورة خيبات الآمال الناجمة عن التشرذم السياسي الداخلي وتعمق الانقسام الوطني في ظل الخذلان الذي مارسته بعض الأنظمة العربية، إلا أن تاريخ 21 أيار 2021، شكل محطة محورية ومنعطفا مفصليا في تاريخ الصراع الفلسطيني – الصهيوني، وإحياء المقاومة المسلحة الفلسطينية والشعب الفلسطيني للذكرى الأولى لمعركة «سيف القدس» في هذه الآونة، كما حمل الكثير من الدلالات والمعاني وسط تزايد حالات التوتر التي تشهدها الأراضي المحتلة، واتساع رقعة الاحتمالات نحو انفلات الأمور باتجاه تصعيد جديد لن يصب في مصلحة حكومة الكيان، بل سيزيد من وضعها المربك ويعرضها لانتكاسة جديدة هي بغنى عنه وفق نصائح وتوصيات مراكز الأبحاث السياسية والعسكرية المتصلة بدوائر صنع القرار.
وتأتي أهمية إحياء هذه المناسبة من كونها رسخت بالمقام الأول لبنية تأسيسية تتضمن مرحلة فكرية أكثر تطوراً لنهج المقاومة وآلياته تحث الأجيال الجديدة على التمسك بخيار المقاومة، كما أنها أسهمت في المقام الثاني بشكل واضح لا لبس فيه ووفق اعتراف دوائر صنع القرار الإسرائيلية بتوسيع دائرة الردع التي بدأت منذ إجبار جيش الاحتلال على الانسحاب من قطاع غزة 2005 وما تلاها من إخفاقات لازمت اعتداءاته في 2008_2009، وكذلك في عدوان 2014، لذلك فإن معركة سيف القدس وضعت قيادة الكيان في خانة التفكير مئات المرات قبل الإقدام على أي تهور أو مغامرة عسكرية تجاه قطاع غزة وغيرها من المدن الفلسطينية من دون الأخذ بالحسبان نتائجها الكارثية على كل المستويات.
وفي هذا الإطار لا يمكن لأي مطلع على تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، إلا أن يقر بأن هذه المعركة شكلت نقطة تحول لمصلحة المقاومة والشعب الفلسطيني والداعمين لهم، وتأثيراتها المدوية تركت ندوبها التي لم تندمل في الجسد الصهيوني، سواء على المستوى الرسمي أم على مستوى المستوطنين، بعد تمكن المقاومة من استهداف عمق الداخل المحتل ونقل المعركة إليها ما زرع الرهبة والخوف في عقول المستوطنين وأحلامهم.
معركة «سيف القدس» وبعد عام من مرورها على إثر اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى وتهديد سكان حي الشيخ جراح في القدس من الترحيل، يمكن القول إنها معركة ذو بعد إستراتيجي، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: منذ ما يزيد على سبعة عقود من الصراع الفلسطيني – الصهيوني، فإن معركة سيف القدس تعد المعركة الأولى التي بدأتها المقاومة، وحددت توقيتها واختارت بعض مواقع الاشتباك، ورسمت طبيعة أهدافها، وكرست القدرة على توسيع دائرة الردع وأبرزت عامل التحدي.
ثانياً: التفاف الشارع الفلسطيني بكل أطيافه وألوانه في دعم العمل المقاوم، فالصورة التلاحمية للشعب الفلسطيني التي تبلورت أثناء معركة سيف القدس في غزة والضفة والأراضي المحتلة التي تعرف بـ«أراضي 1948» شكلت هاجس رعب لقيادات الكيان، ولاسيما أن هذه المعركة كشفت إخفاق إستراتيجيات حكومات الاحتلال على تغيير هوية وقناعة من تطلق عليهم «عرب 48»، وأظهرت أن استعراض القوة الإرهابية على مدى عقود سابقة وما شهدته من ارتكاب العشرات والمئات من المجازر وتزييف الحقائق واستخدام لغة التهديد والترغيب، لم تستطع من إبعاد الأجيال الجديدة عن خيار المقاومة ولم تمح من نفوسهم وعقولهم وعقيدتهم قدسية حقوقهم والمطالبة بها.
ثالثاً: معركة سيف القدس أكدت أهمية ومكانة مدينة القدس لدى الفلسطينيين ومحور المقاومة، وهذا برز من خلال تهديدات الأمين العام لحزب اللـه حسن نصر الله، بأن أي اعتداء صهيوني قادم على مدينة القدس قد يتحول لحرب إقليمية، كما منحت معركة سيف القدس زخماً دولياً من حيث الاهتمام بعدالة الشعب الفلسطيني ومكانة القدس وهو ما تجلى في المظاهرات المتعددة التي جالت العديد من دول العالم المنددة بالسلوكيات الصهيونية العنصرية.
رابعاً: في الوقت الذي كشفت به معركة سيف القدس التطور الكمي والنوعي لمقدرات المقاومة، وتوسيع أدوات خياراتها وإدخالها لوسائل جديدة تخدم صراعها مع الصهيونية، بما في ذلك الحرب النفسية والإعلامية وصراع الأدمغة، فإنها في المقابل بينت هذه المعركة مدى هشاشة وتصدع الجبهة الداخلية الإسرائيلية من ناحية، ومن ناحية ثانية بينت مدى الإخفاق الذي وصلت إليه الأجهزة الاستخباراتية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وهو ما ترك آثاره السلبية على معنويات المستوطنين وفقدان ثقتهم بمؤسسات كيانهم الرسمية وقدرتها على الدفاع عنهم، فضلاً عن تعرض مجمع الصناعات العسكرية الإسرائيلية والغربية لفشل مريب.
خامساً: على الرغم من اتساع دائرة الدول المطبعة مع حكومة الاحتلال وتغيير تموضع الكثير من الدول العربية في الصراع العربي_ الصهيوني، إلا أن هذه الاتفاقيات لم تعد بأهمية أمنية وعسكرية على الكيان وفق ما كان يروج ويخطط له.
سادساً: في الوقت الذي مرت به إسرائيل بتخبط واضح على المستويات المختلفة واضطراب وفوضى أمنية وتراشق الاتهامات بين المؤسسات الرسمية والحزبية في تحمل المسؤولية، فإن معركة سيف القدس وحدت من عمل الفصائل المقاومة على الرغم من اختلاف مرجعية أجنحتها السياسية، ومنحت الفصائل المقاومة القدرة على معرفة ثغراتها في تلك الآونة لمحاولة ترميمها وتفاديها في أي مواجهة مقبلة لا تبدو بعيدة الحصول.
سابعاً: معركة سيف القدس كما أنها تركت تأثيراتها السلبية على الجوانب العسكرية والأمنية والاقتصادية الإسرائيلية، فإنها أسهمت على المستوى السياسي في تمهيد الطريق نحو سقوط حكومة بنيامين نتنياهو الذي كان يطمح للتفرد بالسلطة والاستيلاء على مقاليد الحكم لفترة طويلة من الزمن.
بعد مرور عام من حصول معركة سيف القدس، فإن حكومة الاحتلال اليوم مازالت تخضع لمآرب الجماعات الدينية المتطرفة والعنصرية، في تكرار لخطأ حكومة نتنياهو، كما أن وضع حكومة بينت الهش والذي بات على المحك قد يدفعها نحو تصدير أزماتها للخارج عبر عدوان جديد، وهو ما يتطلب توحيد الصف السياسي الفلسطيني بعد الإخفاق الذي حصل في السابق من استثمار أبعاد هذه المعركة، تكريساً لواقع التفرقة والتشرذم الداخلي الذي تغذيه حكومة الاحتلال.