من دفتر الوطن

واقعة رمزية

| حسن م. يوسف

يطيب للغربيين وأتباع المركزية الغربية أن يعتقدوا أن الرمزية حركة أدبية أطلقها عدد من الشعراء الفرنسيين عام 1881، وأنها ماتت في عام 1891. وبما أن الأساطير هي أمات كل الرموز، «التي تنقل الروح البشرية إلى الأمام»، على حد قول جوزيف كامبل، يطيب لهؤلاء الاعتقاد بأسبقية الأساطير اليونانية على غيرها من أساطير العالم، لكن أي نظرة منصفة لتاريخ الفكر البشري تثبت أن الأساطير الشّرقيّة القديمة هي الأصل، ويشهد على ذلك مواطنا أرضنا، جلجامش ونقماد الثاني، كما يشهد عليه بان كو الصيني وإندرا الهندي.

لا شك أن «البشرية تسير في غابة من الرموز» كما يرى الشاعر الفرنسي بودلير، فـ «أولئك الذين يحكمون الرموز، يحكموننا» على حد قول اللغوي البولوني ألفريد كورزيبسكي. إلا أن دلالة بعض الرموز تختلف أحياناً من مجتمع لآخر ومن مرحلة لأخرى، فاللون الأحمر يستخدم في كثير من الدول كرمز للثورة والعنف، لكنه يحمل دلالات أخرى في بعض المجتمعات، ففي الصين يرمز للزواج، وعند الهنود الحمر الأمريكيين يُعبِّر عن الجهة التي تشرق منها الشمس، وفي فرنسا يرمز لمدرسة الحقوق… إلخ. وحتى عام 1920 كان الأوروبيون ينظرون إلى الصليب المعقوف كرمز يجلب الحظ، لكن دلالته انقلبت إلى النقيض عندما اتخذه الحزب النازي الألماني شعاراً له وهو يعتبر الآن من أبغض الرموز في التاريخ.

يكاد مؤسس علم النفس التحليلي السويسري كارل يونغ يحصر صناعة الرموز بالمبدعين، يقول: «إن الفنان الأصيل يطلع على مادة اللاشعور الجمعي بالحدس، ولا يلبث أن يسقطها في رموز». لكن الواقع قد يعبر عن نفسه أحياناً برمزية أعلى مما يستطيع أي فنان أصيل أن يفعل.

قبل فترة أرسل لي أحد الأصدقاء حكاية على لسان مهندس زراعي يعمل في صعيد مصر وقد جلس ذلك المهندس في أحد أسفاره بالقطار إلى القاهرة، بالقرب من فلاح مسن يضع بين ساقيه كيس خيش. لاحظ المهندس أثناء الرحلة أن الفلاح يقلب الكيس ويهزه كل ربع ساعة، كما لو أنه يخلط محتوياته، ثم يعيد تثبيته بين ساقيه. وقد أثارت هذه الحركة فضول المهندس الزراعي فسأل الفلاح عن سببها، أجابه الفلاح بأن الكيس مملوء بالجرذان والفئران، وهو يقوم باصطياد تلك القوارض كي يبيعها للمركز القومي للبحوث بالقاهرة، حيث يتم استخدامها في التجارب المخبرية. تساءل المهندس بفضول: ولماذا تقلب هذا الكيس وتهزه بين فترة وأخرى؟ أجابه الفلاح ببساطة تنضح بحكمة صافية: «لو تركت كيس الخيش من دون تقليب وهز لفترة تزيد على ربع ساعة، لشعرت الجرذان والفئران بالراحة والاستقرار، وعندها سيزول توترها الغريزي، ولن يطول الوقت حتى يبدأ كل واحد منها بقرض كيس الخيش لثقبه والخروج منه، لذلك أهزّه كل ربع ساعة لإثارة خوف الفئران والجرذان، وإبقائها في حالة توتر، فتنشغل بالعراك مع بعضها، منساقة بغرائزها، إذ يظن كل منها أن الآخر هو سبب ما يجري، وبهذه الطريقة أبقي كيس الخيش سليماً ريثما أصِل إلى مركز البحوث.

هذه الحكاية واقعية تماماً لكنها تنطوي على أبعاد رمزية تعبر بعمق عما يفعله الغرب في منطقتنا منذ قرون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن