«ناتو» بلا أنياب في مواجهة العقل السيبيري.. ماذا لو فرضت «معركة الجوع» شروطها؟
| فراس عزيز ديب
«عليكم التفكير بتبعاتِ الهزيمة الروسية في أوكرانيا»، بهذهِ العباراتِ البسيطة حذَّرَ وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر «ناتو» من الدعمِ غير المشروط للجانبِ الأوكراني في محاولةٍ منه لتجريعِ الروس خسارة قاسية في هذهِ المعركة، ما يفتح لهُ الأبواب مشرَّعة لاقتحامِ الجمهورياتِ الروسية سابقاً ويصبح على الحدود الروسية تماماً، لكنَّ هذهِ التحذيرات الكيسنجرية لا يمكن فهمها فقط في إطار الحرص على حقنِ الدماء، أو كقراءةٍ موضوعية لعبثيةِ هذه المحاولة من الشخصية الأهم في تاريخِ السياسة الخارجية الأميركية، تحديداً أن الرجل دعا صراحةً لقبولِ التنازل الأوكراني عن جزءٍ من الأراضي لمصلحة روسية وما يعنيه هذا الخيار من انتهاء أوكرانيا التي نعرفها على الورق، فقد تكون الدعاية الغربية المعاكسة لفكرة إذلال الروس على التراب الأوكراني قد بدأت فعلياً، بمعنى آخر هيَ محاولة لتفريغِ الانتصار الروسي من معناه قبل أن يتحقق كليَّاً، وتبرير التراجع الغربي في الذهاب بعيداً بهذه المغامرة الأوكرانية ليبدو العالمَ أمام خيارين لا ثالثَ لهما إلا التسليم بالانتصار الروسي، حرب الغذاء أم الحرب المباشرة فأيهما ستكون أقرب؟
هذا السؤال لم يعد طرحهُ من بابِ الرفاهية السياسية، بل إن هذا السؤال دخل عملياً مرحلةَ التنفيذ وما يفسره نجاح الروس بإطالةِ المعركة ليكسبوا في شقين أساسيين:
أولاً: الشق العسكري
قبلَ أيام قليلة ارتفعَ السِّجال في مجلس الأمن القومي الأميركي تعقيباً على المعلوماتِ التي تتحدث عن نيةِ الرئيس جو بايدن منح الجيش الأوكراني مساعدات عسكرية تتضمن منظومة صواريخ «هيماريس» القادرة على إطلاق الصواريخ من عربةٍ متحركة يصل مداها لأكثر من 300 كيلو متر، ارتكز السجال على نقطة مهمة: ماذا لو استخدم الجيش الأوكراني هذهِ المنظومة لضربِ أهدافٍ داخل الأراضي الروسية؟
سؤال معقَّد يكشف لنا الخطوط الحمر التي لا يستطيع الأميركي ولا غير الأميركي تجاوزها في المعركة الحاصلة اليوم، هذا يعني أن على الجانب الأوكراني الاقتناع بأن المساعدات الناتوية لن تتجاوز منظومات الأسلحة الدفاعية وأن اتساع رقعة المواجهة يجب ألا يتجاوز الأراضي الأوكرانية وهو ينسف ما يُشاع عبرَ الإعلام بأن الدعم للجانب الأوكراني غيرَ مشروط، هذا من دونَ تجاهل الحديث عن فكرةِ أن ما يتم إرساله من سلاح إلى أوكرانيا، أميركياً كان أم أوروبياً، ليسَ مساعداتٍ مجانية، ففي جزءٍ كبيرٍ منها هي مبيعات سيدفع ثمنها مستقبلاً المواطن الأوكراني بعدَ أن تضع الحرب أوزارها، رغمَ أنه كان يخوض معركةَ الآخرين على أرضه!
على الجهةِ المُقابلة يبدو أن الجانبَ الروسي أدارَ الحرب العسكرية حتى الآن بالطريقةِ التي يريدها وليس بالطريقة التي يفرضها عليهِ الأعداء أو مشاعر المتعاطفين معه والتي انطلقت من فكرةِ أساسية هدفها الاستثمار بالوقت، هم يدركونَ أنهم يحاربون «ناتو» على الأرض الأوكرانية وما يعنيهِ هذا الأمر من قبولٍ ضمني لتلقي الخسائر بالعتاد والأرواح، لكن «ناتو» لن يتجرأ على نقل المعركة إلى الأراضي الروسية ظنَّاً منه بأن هذا الاستنزاف سيجبر الروسي على الانسحاب من المعركة بذرائعَ شتى وبالحدِّ الأدنى الذي يحفظ ماءَ وجه الروسي، لكن رويداً رويداً بدأ الجانب الروسي يحصد ثمنَ الاستثمارِ بالوقت، لتكون النتيجة مضاعفة تعدتها من المعركة العسكرية إلى الاقتصادية.
ثانياً: معركة الجوع
منذُ وصولهِ إلى كرسي الرئاسة في عام 1971، بنى الرئيس الراحل حافظ الأسد طموحاتهِ بالاستثمار الأمثل في الموقع الإستراتيجي لسورية ليكون لاعباً أساسياً يطلب رضاه الجميع على فكرةِ الاكتفاء الذاتي، لأن استقلال القرار للدول ينبع من استقلال الاقتصاد، واستقلال الاقتصاد ناتج عن سيطرةِ الدولة على أمرين، زراعة القمح وإنتاج النفط، هذه الإستراتيجية تضمن بالحد الأدنى الاكتفاء الذاتي وصولاً إلى مداخيل الخزينة من القطع الأجنبي أو مبادلة القمح بما نحتاج، نجحت هذه السياسة حتى ما قبل الحرب الأخيرة بتحقيق المرجو منها، فصمدت سورية في وجهِ كل محاولاتِ السيطرة على قرارها، هذا ما كان وما زال يُزعج الصديق قبل العدو، بمعنى آخر لنتخيل لو أن ما يجري في سورية اليوم قائم من دون سيطرة قوات الاحتلال الأميركي على منابعِ النفط والأراضي الزراعية الخصبة، كم سيكون تأثير الحرب على المواطن السوري؟
لعلنا إذ نطرح هذا المثال فهو لكي يكون تبسيطاً لفهمِ المعركة الاقتصادية الجارية حالياً لكن على مستوى العالم، فكيف ذلك؟
إذا كانت أوكرانيا دولة عُظمى ومنتجة لكل المواد الاستهلاكية والغذائية إلى الحد الذي جعلت الحرب عليها تؤدي إلى كل هذا الارتفاع في الأسعار العالمية، فكيف وصلت إلى هذه المكانة إذا كان «الديكتاتور الروسي» يمنعها من التقدم كما يخبرنا الإعلام الفرنسي؟ هذه المقاربة البسيطة طرحها مواطن فرنسي كتعليق على أحد الأخبار التي تشرح سبب ارتفاع أسعار الزيوت النباتية في فرنسا، هوَ لم يشأ فقط أن يعبِّر عن الانتقاص الذي يتعاطى معه الإعلام الفرنسي بنقل الحقائق كما هي، لكن الفكرة الأهم أن ذريعة الحرب الأوكرانية باتت اليوم تبريراً لأي ارتفاعٍ في الأسعار، بعض المؤسسات الحكومية في فرنسا باتت ترسل للمواطنين الأوراق التي يحتاجونها عبر البريد الإلكتروني ليقوموا بطباعتها بأنفسهم توفيراً لاستهلاك كميات الورق من الخزينة الحكومية! هل حقاً إن أوكرانيا تمتلك هذه المكانة؟ أم إن ما لم يستطع أحد قوله إن الساسة الأوروبيين عندما رفعوا شعار تحطيم هيبةِ الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا لم يفهموا عملياً ماذا تعني روسيا في حركةِ التجارة العالمية، ولم ينتبهوا لفرضيةِ أن العقوبات سيدفع ثمنها الأوروبيون قبل أي أحد!
ببساطة تبدو المكابرة الغربية حتى الآن ذراً للرماد في العيون، الكثير من الدول الوازنة في مجالِ إنتاج المحاصيل الإستراتيجية في القارات الخمس أوقفت صادراتها الأساسية من هذهِ المواد لتوفيرهِا إلى شعوبها، هناك من بدأ فعلياً يطرح فرضية أن دعم الخزينة بالقطع الأجنبي من التصدير يمكن تأجيله، لكن نقص المواد الأساسية بهدفِ تصديرها قد يطيح بالحكومات والأوطان، هذا الإحجام عن التصدير ستكون نتائجهُ كارثية على الدول المتوسطة والفقيرة لأن قلةَ المعروض ستسرِّع برفع الأسعار أكثر.
على الجانبِ الآخر، يبدو من تستهدفه العقوبات حتى الآن لا يتمتَّع بالقدرةِ على التحكم بإنتاج وتصدير الحبوب والنفط والغاز فحسب، لكنه بالوقت ذاته يتمتع بالقدرة على التحكم بالطرق المارة عبرها هذه المنتجات، أما سعر الروبل فهو يواصِل صموده تجاهَ الدولار، لم يتهاو كما كان يحلم من دفع بالأوكرانيين نحو المحرقة، بل إن كلام وزير المال الروسي الأخير عن تريليون روبل ستجنيها الدولة الروسية من بيع النفط هذا العام سيتم استثمارها داخلياً ولن تُضاف إلى الخزينة، يعني ضياع طموحات من كان ينتظر ثورة شعبية تُطيح برأس النظام الروسي.
على هذا الأساس تبدو الحرب الاقتصادية اليوم هي الجزء الأهم من هذا الصدام الدولي الحاصل، هناك طرف كان يثق بقدراته ومقومات صمودهِ وهناك طرف لم يكترث لها حتى لدعتهُ نيرانها، هل لنا أن نتخيلَ أن الولايات المتحدة الأميركية تعاني من نقصٍ في حليبِ الأطفال؟! هذا من دون إغفال الأصوات التي تتساءل عن جدوى دفعِ المليارات من جيوب دافعي الضرائب في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في حربٍ عبثية، فيما الفقر والبطالة يلفان مجتمعات هذه الدول؟!
لا تبدو نداءات الجوع القادم التي أطلقها قادة غربيون والكثير من المنظمات الدولية مجردَ كلامٍ في الهواء، هي حقيقة قادمة على الجميع التجهيز لمواجهتها منذ الآن، قد يبدو للبعض أن الحلَّ بسيط يتركز بإنهاء الحرب الأوكرانية بالطريقة التي تضمن للروس الشروط المتعلقة بإبعاد «ناتو» عن حدودها، لكن في الحقيقة وفق معطيات القوة التي أبداها الروس في هذه المعركة وعدم خذلان الكثير من الأصدقاء لهم وعلى رأسهم الصين، فإن المعركة ستتعداها للوصول إلى فكرةِ إخضاع «ناتو»، لكن لننتبه هنا إلى أن قرار الإخضاع هذا لن يكون مرتبطاً بالحرب الأوكرانية وغيرها فحسب، هذه تفاصيل، المقايضة الأهم ستكون رفع العقوبات، ما عدا ذلك لا يبدو أن الروس يستعجلون إعلان الانتصار وهم من يمتاز بالعقل السيبيري البارد، ولا حتى «ناتو» قادر على حسم المعركة بالطريقة التي يراها مناسبة، وحدها معركة الجوع ستجبر كل المحاور على إعادة رسم الخرائط من جديد، قد تكون هناك ضحايا جدد لكن في النهاية لن ينجو إلا من أدركَ مبكراً أنه يقف مع الجزءِ الصحيح من التاريخ، فكيف إن كان جزء منه من صناعته!