ثقافة وفن

الأدب أصدق أنباء … لا تهرّبوا الشخصية المحورية في الرواية السورية

| ضحى مهنا

اتفق كثيرون على أن الرواية والسينما وغيرهما من الفنون، كانت الأصدق في إضاءة الحقيقة والحياة الإنسانية من أولئك المؤرخين أو رواة التاريخ، أذكر كمثال عن تلك الروايات الخالدة (جسر على نهر دارينا) و(1984) و(دكتور زيفاكو) و(جناح السرطان) و(بيروت 75) و(باب الشمس) وغيرها.. كان أدباؤها قد قرؤوا أحداث الحياة بعقل المثقف العارف وخيال الأديب والفنان الخصب وضمير الإنسان الصادق والأمين، فاستشرفوا المستقبل وإرهاصاته، ونافسوا بجدارة كتب التاريخ لاحقاً، فماذا عن روايات اليوم؟ من يقرأ يجد بعضها قريبة من رواة التاريخ القديم الذين كتبوا الأحداث وشخصياتها كما أملى عليهم سلاطينهم وما ساقته لتدوينه أهواؤهم الشخصية.

ومن يتابع في سورية الرواية والدراما التلفزيونية وغيرها فسترتد عنها نفسه كسيرة حسيرة لما يجد في بعضها من التواء في عنق الحقيقة واختزال مسفٍّ وظالم لرواية الحرب السورية الثقيلة، فأساء هؤلاء إلى مصداقيتهم وأمانتهم.

دور الأهواء

نسأل: هل استبدل هؤلاء بالسلاطين والأهواء، دور النشر أو شركات الإنتاج ومنصاتها أو سوق الكتب؟ لقد أدلى بعض الأدباء والفنانين كلٌّ بدلوه، وكل دلْو يمتح من بئر وصفاً وتحليلاً لا يرقيان إلى مستوى الأدب كرواية (السوريون الأعداء) فخسر صاحبها إنسانية الأدب، وأهان نفسه قبل أن يهين غيره بحقده الأسود وتضليله الخبيث وكراهية مقيتة. واليوم يعود بعض من هؤلاء إلى أحداث الرواية السورية بعد سنوات تجاوزت أحد عشر عاماً، ليوغلوا ثانية في النفاق وتحريف الحقيقة والتضليل، ويتخلّوا عن الدور الرائد للأديب والفنان والمفكر في إضاءة الأحداث رغم أن النور بات كافياً، وكان كذلك لرؤية الحقيقة بعد أن حجبوا عنها أنوار الأرض والسماء ــــ فما استحقوا مكانةً بين الأدباء الحقيقيين. ما كان المطلوب منهم سوى الأمانة والصدق، ليغضبوا ما شاء لهم الغضب الحارق، شرط أن يكون غضبهم موزعاً على شخصيات رواية الحرب السورية.

الخرائط المرسومة

وإن كان القاصي قبل الداني بات يعرف أن الحرب السورية ما كانت محليّة بأيدي أبنائها وحدهم، وما كانت الأخطاء والخطايا المعروفة هي وحدها السبب في نزول الصواعق والكوارث، بل كانت مطيّة رخوة ركبتها آلهة الدول الكبرى وبناتها الساحرات وما خلّفت من شياطين متوحشة، ولقد اعترفت تلك الآلهة بذلك وتبعها تصريح أو أكثر من دوحة الحرية والمدن المنورة كان اعترافهم وقحاً متغطرساً بعد إخفاق ذريع في رسوم خرائطهم وقد تفرق الآثمون المتعاونون على العداء الكبير لسورية، ليغضب من يشاء على أن يضمّن غضبه الحقيقة الساطعة فيما يكتبون وينتجون عن دور آلهة الأرض وربيبتها المدلّلة وأتباعها المتخلّفين. لماذا يهرّبون هذه الشخصية المحورية في رواية الحرب السورية الباهظة، ولا يتكلمون عنها، بل يكتفون بروايات ومسلسلات ما عادت مقنعة، لأنها تقوم على شخصيات ثانوية وإن مهمة، لكنها ليست في أهمية شخصية آلهة الأرض، ليصل أدبهم أو فنّهم إلى الخلود، أما كانوا يستطيعون أن يتكئوا على وسائل الإعلام أو بعضها.

رواية الحرب

تلك التي وثقت الأحداث في رواية هذه الحرب؟ كانت الإرادة مفقودة ومطلوبة من دور النشر وشركات الإنتاج وأسواق الكتب، فهذه تفرض شروطاً أين منها شروط السلاطين القدامى والمحدثين.. لقد أصاب هذيان الإنكار أصحاب هذه الدور والشركات والأسواق، فدولها الغنية لا تزال تنكر إخفاق مساعيها في الحرب السورية، وربما تعيد محاولاتها القذرة بضوء أخضر من آلهة الأرض الكبرى، من المحزن والمخجل أن يقف هؤلاء فوق جراح الناس وعذاباتهم ليلقوا باللائمة على ما اقترفته الدولة من أخطاء وخطايا، فما عاد يعجبهم أمر في هذا الوطن، لا تعليم ولا صحة ولا خدمات ولا ثقافة ولا إعلام، ولا.. ولا.. لكأن الوطن المسؤول وحده عن تدهور الحياة، هم يتناسون عن قصد أو يهرّبون ثانية الشخصية الرئيسية في هذه الحرب التي تنقّل بين الحروب الأبجدية، ألا تأتيهم الأنباء بسرقة النفط والقمح والحصار الاقتصادي؟ لماذا لا يكتبون عن هذه الأمور؟ ألا يرون ما يفعله السلطان العثماني والأفراد؟ ما الذي يدفعهم على الإصرار على تصوير الوطن في صورة واحدة أرضاً للمافيات والحيتان، وهذه نراها حقيقة في الوطن وغيره خاصة في الحروب وفوضاها، لكنها لوحة ناقصة لو أرادوا لرأوا أن على أرض الوطن شرفاء يعملون ما في وسعهم وسط تخريب ودمار لم تعرفها حروب أخرى، هل يشجعون في رواياتهم الهجرة؟

أما سمعوا عن عذابات اللاجئين والمهجرين في الخارج بعد أن ضاق بهم ذلك وضجر منهم سريعاً بعنصريته البغيضة؟ هل يخافون من الكتابة عن هؤلاء المساكين وأولادهم الذين انتزعوا منهم ليقوم الخارج على تربيتهم؟ ألا يتأملون ويبصرون؟ هل يخافون من تعرية الغرب المنافق وحلفائه، فهؤلاء، ما أرادوا يوماً أن يرفعوا ظلماً عن شعوب بعيدة عنهم ولا فكّروا أبداً في تصدير المعرفة والحرية والديمقراطية التي تعاني شعوبهم نفسها من رذائل حكامهم، إنه الجبن الذي دخل نفوسهم وما عادوا يتجرؤون إلا على أوطان جريحة معذبة، وليس في هذا الشيء من شجاعة الفكر والفن التي ينبغي أن يتحلّى بها الأدباء والفنانون، لكنها شروط دور النشر وشركات الإنتاج وأسواق الكتب…

وأسأل أخيراً كيف تشتعل ثورة حتى للجياع على أيدي هؤلاء الذين يركضون بسطوة المجد والمال؟ أبحث عن غياب قصص الحب العذبة المنعشة، عن روايات وفنون اليوم، وكنت وجدتها كثيراً في الروايات الخالدة جميعها التي كتبت في السلم كما في أزمنة الحروب والكوليرا والتيفوئيد و.. هل تسخر هذه الروايات والفنون من الكتابة عن المشاعر المحبة كما تسخر من الحقيقة بالتجاهل أو التهريب، أم إن بث الكراهية هو المطلوب لاستمرارية الحرب اللعينة؟.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن