قضايا وآراء

الأزمات العالمية المتتالية وسبل تخفيف المعاناة

| الدكتور قحطان السيوفي

يواجه العالم منذ سنوات أزمات متتالية؛ كالأزمة الاقتصادية العالمية 2007 وما أعقب ذلك، ثم النتائج المأساوية المتراكمة لتغير المناخ عبر ارتفاع درجات الحرارة وشح الأمطار والجفاف والفيضانات، فأرخت بظلال سوداوية على المشهد الغذائي العالمي، وصولاً إلى جائحة كورونا التي قلبت حياة العالم واقتصاداته رأساً على عقب ولم تنته بعد، ثم جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لتحدث تداعيات اقتصادية مدمرة، مع ما رافقها من مآسي التهجير، فانتقلت العواقب الاقتصادية للحرب انتقالاً سريعاً وبعيد المدى، وكان تأثيرها الأشد على الفئات الأكثر ضعفاً في العالم. فمئات الملايين من الأسر كانت ترزح بالفعل تحت وطأة انخفاض الدخل وارتفاع الأسعار، وجاءت الأزمة الأوكرانية لتفاقم من هذه المعاناة، وقال الأمين العام للأمم المتحدة: تهدد الأزمة الأوكرانية بدفع ما يصل إلى 1.7 مليار شخص، أي أكثر من خُمس البشرية، إلى الفقر والعوز والجوع.

أصبح التضخم خطراً واضحاً وحاضراً في الكثير من دول العالم، وهذا يعني أن جائحة كورونا والحرب الأوكرانية، كانتا بمنزلة أزمة مزدوجة ترافقت بتشتت الاقتصاد العالمي على شكل كتل جغرافية سياسية، تختلف في معاييرها التجارية والتكنولوجية، وعملاتها الاحتياطية، وهذا التحول يتطلب تكاليف قاسية للتكيف، فقد تتحطم سلاسل الإمداد، وعمليات البحث والتطوير، وشبكات الإنتاج ويتعين إعادة بنائها.

ستتحمل الدول الفقيرة فاتورة هذه الاختلالات، منذ أيام قليلة انتهت الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وخرجت بنتيجة أن الأزمة الاقتصادية العالمية الحاصلة هي نتاج تراكمات جائحة «كوفيد– 19» وتداعيات الحرب الأوكرانية، وهي أزمة شديدة العمق والخطورة.

أدت أزمة أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار السلع الأولية وإلى رفع احتمالات النمو بالنسبة إلى عديد من الدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعي والمعادن.

غير أن ما حققته من مكاسب لا يكفي على الإطلاق لتعويض التباطؤ العالمي الكلي المدفوع في معظمه بالحرب الدائرة.

سيكون للعقوبات المفروضة على روسيا تأثير جسيم على الاقتصاد العالمي والأسواق المالية العالمية، وكانت روسيا وأوكرانيا تقدمان 28 في المئة من صادرات القمح العالمية قبل الحرب، وإن أكبر المتضررين من الأحداث على الساحة الاقتصادية العالمية هو اقتصاد القارة الأوروبية العجوز، الذي سيدخل مرحلة الركود الاقتصادي؛ وذلك بسبب تقلص الإنتاج فيه وتبعيات التضخم وأثره في رفع تكلفة الإنتاج ومعدلات المجاعة على مستوى العالم إلى الارتفاع، وكان لأزمة جائحة كورونا نصيب أيضاً في تدهور المشهد العام.

يضاف إلى ما سبق الحرب الأوكرانية، التي فاقمت من الأزمة الغذائية العالمية ووضعت دولاً بأكملها على حافة خطر المجاعة.

ارتفاع أسعار الطاقة (النفط) جاءت كمن يكب الزيت على النار فأدى إلى زيادات حادة في أسعار المواد الغذائية، كما ارتفعت تكاليف الشحن إلى جانب رسوم التأمين بسبب الحرب، ما زاد من تضخم أسعار القمح والمنتجات الغذائية، وأسفر عن أزمة نقص الإمدادات الغذائية للدول النامية.

وضمن قائمة البلدان المرشحة للتعرض للآثار الأولية لتلك الأزمة، تأتي دول الشرق الأوسط، التي تعتمد على القمح الروسي والأوكراني بنسب فاقت الـ80 بالمئة.

لا تزال أسعار الغذاء والطاقة، إلى جانب مشكلات سلاسل الإمداد، تدفع التضخم إلى الارتفاع، فبالنسبة إلى الاقتصادات المتقدمة، بلغ التضخم بالفعل مستوى لم يبلغه على مدار الأربعة عقود الماضية.

التضخم يشكل تهديداً للاستقرار المالي وضريبة على المواطنين العاديين الذين يكافحون لسد احتياجاتهم الأساسية، وفي كثير من الدول، أصبح التضخم مصدر قلق مركزياً، وهناك احتمال متزايد بأن يصبح التضخم أصعب في السيطرة عليه.

إن العالم يتعرض لأزمات متتالية، فما سبل تخفيف معاناة البشرية؟ إنه في التصدي للوباء ومحاربته، وهنا نحتاج إلى مجموعة أدوات شاملة تتضمن اللقاحات واختبار الكشف عنه والعلاجات المضادة له، كما ينبغي أن تظل الدول على استعداد لاستخدام مرونة سعر الصرف للقيام بتدخلات في سوق الصرف، ويتعين توخي التحديد الدقيق لأولويات الإنفاق، على شبكات الأمان الاجتماعي والصحة والتعليم وتوجيهها لأضعف الفئات.

كما من الضروري رسم مسار موثوق لسياسات ضريبية عادلة ولذلك يجب على صناع السياسات مواصلة التركيز على التحول الأخضر والثورة الرقمية.

التعاون الدولي هو العلاج الفاعل الوحيد لهذه المخاطر، لكن هذا التعاون غير ممكن في ظل الهيمنة العدائية الأميركية، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: إننا نواجه الآن عاصفة كاملة تهدد بتدمير اقتصادات البلدان النامية، ويقول هناك حاجة لإصلاح كبير للنظام المالي الدولي من أجل إرجاع البلدان النامية عن حافة الهاوية المالية.

إن انعدام الأمن الغذائي مصدر للقلق البالغ، فالبديل قاتم، فهناك مزيد من الجوع ومزيد من الفقر ومزيد من القلاقل الاجتماعية، وخاصة بالنسبة إلى الدول النامية، والبيئة العالمية الحالية في ظل الأزمة المزدوجة لكورونا والأزمة الأوكرانية، هي الأكثر تعقيدا في تاريخنا المعاصر، ومع هذه الأزمات المتتالية، يمكن القول بلغة الاقتصاد إن النمو انخفض والتضخم ارتفع، ويقابل ذلك بلغة الإنسانية، أن دخول البشر انخفضت ومعاناتهم زادت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن