في عام 1955 وجد الكيان الإسرائيلي بعد مرور سبع سنوات على نكبة عام 1948 أن خطر وجود جبهة مصرية وأخرى سورية ضد الكيان بدأ يتزايد فاستنجد رئيس حكومة تل أبيب ديفيد بن غوريون ببريطانيا وفرنسا الدولتين الاستعماريتين اللتين صنعتا الصهيونية وسلمتا لها الوطن الفلسطيني بعد 29 عاماً من احتلال بريطانيا لفلسطين، وبعد عام على هذا الخوف الإسرائيلي من مصر عبد الناصر قامت فرنسا وبريطانيا ومعهما الكيان الإسرائيلي بشن العدوان الثلاثي على مصر واحتلت إسرائيل سيناء وقطاع غزة بحماية هاتين القوتين الاستعماريتين بنوع من الحرب الاستباقية، ولكن في النهاية هزم الغزاة وانتصرت مصر وكل من اصطف إلى جانبها ضد هذا العدوان، وانسحبت كل قوات الغزو بما في ذلك القوات الإسرائيلية.
بعد أكثر من عشر سنوات على هذه الهزيمة قرر الكيان الإسرائيلي بدعم مباشر أميركي هذه المرة، شن عدوان في الرابع من حزيران عام 1967 كحرب استباقية مدعومة جواً بسلاح الجو الأميركي وبشكل سري، فاحتلت القوات الإسرائيلية الضفة الغربية وسيناء وقطاع غزة والجولان العربي السوري، ومع المقاومة وحرب الاستنزاف التي تعرضت لها قوات الاحتلال طوال أربع سنوات وجد الكيان نفسه أمام أخطار لم ينهها عدوان حزيران 1967، بل زاد عدد جبهات الحرب والمقاومة ضدها وتجسد ذلك في حرب تشرين 1973 التي زعزعت كيانه.
في يومنا هذا وبعد أن اعتقد الكيان الإسرائيلي أن اتفاقيته مع مصر عام 1979 ستمنع أي حرب أخرى ضده وأي مقاومة لاحتلاله، ها هو يجد نفسه أمام ثلاث جبهات حرب هذه المرة وذات تنوع بالقوة والوسائل الحربية يعجز عن مواجهتها من جبهة الشمال والجنوب والوسط، وتبين أنه بعد هزائمه العسكرية عام 2000 و2006 في جنوب لبنان وعام 2005 في قطاع غزة وانسحاب قواته ونزع مستوطناته منه، أصبح عاجزاً عن شن حروب وقائية على غرار عام 1956 وعام 1967 وتحول وجوده إلى عبء عسكري على الولايات المتحدة التي لم تعد تجد فيه قدرة على تنفيذ وظيفته بعد كل هذه الهزائم وخاصة في العقدين الماضيين، فقد اضطرت إلى حشد أكثر من مئتي ألف من القوات في العراق وأفغانستان في تلك السنوات، وعجزت حتى بهذه القوات عن حمايته عام 2006 من الهزيمة التي تكبدها على يد قوى المقاومة في جنوب لبنان بدعم مباشر من سورية وإيران رغم أن القوات الأميركية لم تكن تبعد عن حدود سورية ولبنان وإيران مسافات كبيرة. وبهذا الشكل بدأ المشروع الصهيوني التوسعي يشهد أزمة وجود جعلت المفكرين الصهيونيين يعترفون ببداية تراجع هذا المشروع بعد أن تبين أن يهود العالم لا يفكرون بالهجرة إليه، بل إن وزارة الهجرة الإسرائيلية اضطرت لعدم التعويل على هجرة يهود العالم، بل على إقناع من غادر من الإسرائيليين فلسطين المحتلة وعاد إلى وطنه السابق، وبموجب الإحصاءات العبرية بلغ عددهم ما يزيد على مليونين من الإسرائيليين الذين تحاول القيادة الإسرائيلية إقناعهم بالهجرة مرة ثانية ولكن دون جدوى، وهذا ما يعترف به المحللون في مراكز الأبحاث الإسرائيلية حين يتطرقون إلى أن عالم اليوم الليبيرالي يمنح اليهود في أوطانهم منافع ومصالح تزيد عما يعدهم به الكيان الصهيوني الذي ظل ساحة حرب لم تتوقف منذ عام 1948 حتى الآن، فاليهودي في أوطانه في العالم لا يضطر للخدمة العسكرية ولا لحماية مستوطنة أو العيش مغتصباً لأرض الفلسطينيين وهو يدرك أنهم لن يتخلوا عن استعادة وطنهم وممتلكاتهم فيه بكل الوسائل الممكنة وفي مقدمها المقاومة، وقد تزايد هذا الشعور لدى المستوطنين في الكيان الإسرائيلي خلال العقود الثلاثة الماضية وأصبحوا يشكون في قدرتهم على ضمان أمنهم الشخصي والاقتصادي بالمقارنة مع بقية يهود العالم الذين لم يهاجروا إلى هذا الكيان، وإذا كانت مجلة «نيوز ويك» قد طرحت قبل خمسة أعوام سؤالاً: «هل تستطيع إسرائيل البقاء من دون أميركا»؟ فإن السؤال الآخر والأهم الذي طرحه الكاتب الأميركي الشهير كريغ كارلستروم في عنوان كتابه في العام نفسه هو: «إلى متى ستبقى إسرائيل والخطر أصبح من داخلها»؟ فهو يكشف أنها «محاصرة ممن يكره وجودها في الجوار ومحاصرة أيضاً ممن يريد استعادة حقوقه منها من الداخل ولم تستطع طوال سبعين عاماً أن تخفض أو تزيل هذه الأخطار»، وفي النهاية لن يكون بمقدور الولايات المتحدة فرض بقائها طالما فقدت وجودها من الداخل.