دخلت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا شهرها الرابع، في ظل عقوبات اقتصادية ومالية غير مسبوقة فرضتها أميركا ودول الاتحاد الأوروبي على روسيا، إضافة إلى حملات إعلامية مسعورة، بهدف الضغط عليها ومنع تعاظم دورها كقوة دولية، بيد أن روسيا وببراعة لافتة استطاعت الحد من تأثير تلك العقوبات وتجاوز مخاطرها وحتى إنها بادرت إلى تسديد ديونها الخارجية كما أنها نجحت في تحصين القوة الشرائية للروبل الروسي، بينما انعكست المفاعيل السلبية للعقوبات، على الوضع الاقتصادي العالمي وخصوصاً في البلدان التي أقامت أو تبنت تلك العقوبات، أو التزمت بتنفيذها خصوصاً أميركا ودول أوروبا، لتشهد ركوداً اقتصادياً وارتفاعاً جنونياً في أسعار السلع الحياتية وتضخماً مالياً لم يسبق له مثيل.
وبناء على فشل مفاعيل العقوبات والضغوط على روسيا، شهدت الدوائر المتخصصة في واشنطن نقاشات واسعة وتكهنات مستقبلية مختلفة، تتعلق بجدوى استمرار الدعم الأميركي المالي والعسكري اللامحدود لأوكرانيا، على حين أن انعكاس هذا الدعم بدا واضحاً في سلبياته على الداخل الأميركي الغارق بحالة من الانفلاش والتضخم والعجز المالي غير المسبوق.
في الكونغرس وقف السيناتور راند بول مخاطباً الإدارة الأميركية بالقول: لا يمكننا إنقاذ أوكرانيا بتدمير الاقتصاد الأميركي، لقد وصل التضخم المالي في أميركا لأعلى نسبة منذ 40 عاماً، وأضاف: إن هذا التضخم والغلاء لم يأت من العدم، بل جاء نتيجة الإنفاق من دون احتساب المخاطر رغم العجز الحاصل، والأميركيون يشعرون بالقلق والألم، ويبدو أن الكونغرس راضٍ عن زيادة آلام الأميركيين، وذلك عبر إهدار المزيد من الأموال من أجل الدفاع عن بلد لا تربطنا معه حدود.
يضيف بول: رغم أن معظم الأميركيين يعارضون العداء لروسيا أو محاربتها، إلا أننا في عام 2014 قدمنا لأوكرانيا أكثر من ستة مليارات دولار أميركي كمساعدات أمنية ضد روسيا، وفي الشهر الفائت أقررنا مبلغ 14 مليار دولار لأوكرانيا أيضاً، ونحن الآن بصدد مناقشة إقرار مساعدات مالية بـ40 مليار دولار لأوكرانيا، بينما أميركا والشعب الأميركي ومراكز أبحاث السرطان والكوفيد 19 أحق بكل تلك المليارات من أوكرانيا، ولم يبق أمامنا إلا الاقتراض المالي من الصين لأجل دعم أوكرانيا، إنكم بذلك توجهون ضربة قاصمة للاقتصاد الأميركي، لا بل إنكم تحطمون الدولار الأميركي فهل أصابكم الجنون؟
على الرغم من الصعوبات وبعض المعوقات المفاجئة التي واجهت روسيا في الميدان، إلا إنها نجحت في تحقيق معظم أهدافها الاستراتيجية في أوكرانيا، وهي ماضية في تحقيق ما تبقى منها رغم الإنفاق الأميركي اللامحدود المترافق مع استمرار أوروبا بتزويد أوكرانيا بكل أنواع الأسلحة الفتاكة لمواجهة روسيا، بيد أن الحديث عن قرب انطلاق المفاوضات بين الطرفين، دفع كل منهما نحو السعي إلى تحسين وضعه الميداني، نظراً لأهمية ذلك في أي مفاوضات جادة لوقف القتال ولو مرحلياً، ثم الانتقال إلى مرحلة التسويات الممهدة للاتفاق على وقف لإطلاق النار، وسط ضباب كثيف يحجب اليقين عن أي توقيت أو سيناريو وقف القتال.
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف صرّح لوكالة «إنترفاكس» قبل أيام قائلاً: إن كل شيء سينتهي بالطبع بتوقيع اتفاق، لكن شروط هذا الاتفاق ستعتمد على الوضع الميداني على الأرض، ما يعني أن لا تسوية ولا اتفاق قبل ضمان إحكام سيطرة روسيا الميدانية على المدن والموانئ المحررة في أوكرانيا تماماً كما حصل في مدينة ماريوبل وفي إقليمي لوغانسك ودونتيسك.
المستشار في مركز المصلحة القومية بالولايات المتحدة سومانترا مايترا يُعلّق على تخلي فنلندا والسويد عن حيادهما التاريخي وتقديم طلب للانضمام إلى حلف الأطلسي، فكتب محذراً في مجلة «ذا ناشيونال إنترست» الأميركية أنه «لا هستيريا الحرب، ولا الرغبة في معاقبة روسيا، ولا التعاطف مع القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، يجب أن تؤثر دائماً في حسابات إستراتيجية دقيقة، وعوض ذلك، فإنه حان الوقت للولايات المتحدة كي تعيد توجيه سياستها بعيداً عن أوروبا والتركيز أكثر على قضايا أكثر إلحاحاً مثل الحدود الجنوبية والتضخم وصعود الصين».
وسط إصرار روسيا على تحقيق كامل أهدافها في أوكرانيا وفي خضم الجدل الحاصل في واشنطن، أطلّ وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسنجر عبر منتدى الاقتصاد العالمي في «دافوس» في 23 أيار الحالي، مشدداً على ضرورة أن يبدأ الجانبان الروسي والأوكراني بمفاوضات في مدى الشهرين المقبلين قبل أن تحدث اضطرابات وتوترات لن يتم التغلب عليها بسهولة، وأن الموقف المناسب لأوكرانيا هو أن تكون «دولة محايدة، لا جزءاً متكاملاً من أوروبا».
كيسنجر أسدى بنصيحة إلى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، تقضي بضرورة الشروع بتسوية مع روسيا والقبول بالوضع الميداني وبما هو قائم قبل خسارة المزيد، مشدداً على حمل الدول الداعمة بالضغط عليه ومحذراً الغرب من مغبة إطالة أمد الحرب وإلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا، مذكراً إن روسيا كانت جزءاً أساسياً من أوروبا منذ 400 عام، وأسهمت في توازن القوى خلال الأوقات الحرجة التي مرت بها القارة، ولذلك، فإنه يجب على الدول الغربية «تذكر أهمية روسيا وعدم الانغماس في مزاج اللحظة».
كيسنجر السياسي المحنك ذو 98 عاماً والذي أطلق عليه لقب «ثعلب» الدبلوماسية بعد نجاحه في هندسة العلاقات الأميركية الصينية بعهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، دعا صراحة في كلمته في دافوس إلى عدم المخاطرة بدفع روسيا إلى تحالف أوثق مع بكين، معرباً عن أمله في أن يتسم الأوكرانيون بالحكمة حيال هذه القضية.
لم تأت نصيحة كيسنجر من فراغ بل ممن زاد خبرة بمزاج النخبة الأميركية وإدراكه لمدى خطورة المؤشرات السلبية الاقتصادية والسياسية وانعكاساتها المقلقة على حال الاتحاد في الداخل الأميركي، وكيسنجر صاحب خبرة طويلة ومكتسبة من حنكة ودهاء وعمق استراتيجي في إدارة ملفات ونزاعات معقدة في العالم، وهو الذي نصح أوكرانيا قبل وبعد البدء بالعملية العسكرية الروسية بإيجاد تسوية متوازية معها، والتي كانت في حينها قابلة لتحقيق.
مما لا شك فيه أن روسيا دفعت كلفاً عاليه في أوكرانيا لأجل تحقيق أهدافها ولضمان أمنها الإستراتيجي، محرزة بذلك تقدماً ملموساً خصوصاً على جبهة الدونباس وإحكام سيطرتها على مواني البحر الأسود وتحرير مدينة ماريوبل الذي أدى إلى استسلام الآلاف من النازيين الذين حوصروا في معمل أزوفستال، مقابل صفر إنجاز عسكري لأوكرانيا، الأمر الذي وضع أوكرانيا في خانة المطالب بتسوية وليس في خانة فارض التسوية.
هنا يصبح الكلام عن أي تسوية لإنهاء الحرب في غير محله، إلا بعد القبول بشروط وأهداف الفارض أي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وطبقاً لمصالح روسيا الإستراتيجية، وبالتالي فإن الرئيس الأوكراني زيلينسكي، سيجد نفسه أمام خيارين أحلاهما علقم، فإما القبول بنصيحة الثعلب هنري كسنجر والشروع بتسوية حسب شروط بوتين والقبول بما هو قائم ميدانياً قبل فوات الأوان، وإما تجرع مرارة العلقم التي أضحت بكل الأحوال حتمية.