منذ أن اندلعت النار الأوكرانية التي باتت على وشك أن تتم مئوية أيامها الأولى، والضوء في جله مسلط على مسارات المعارك وما يجري فيها وصولاً إلى رسم خرائط السيطرة التي بدت طاغية بشكل كبير على تقارير كبرى الوكالات التي استحوذ عليها الحدث، وربما كان في الأمر ما يدعو إليه قياساً لصراع هو الأعنف مما دار في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فيما من المؤكد هو أن تلك المسارات والنتائج التي ستنتهي إليها، سوف تحدد بدرجة كبيرة التوازنات الجديدة في القارة القديمة، وربما في العالم أجمع بعد أن تكون، تلك النتائج، قد أرست حدود العلاقة القائمة، أو التي يجب أن تقوم، ما بين «الغرب» وبين القوى التي لا تنضوي تحت لوائه، حيث بات من المتعثر، وفق التراصفات التي أوجدتها الحرب الأوكرانية، إطلاق مسمى «الشرق» كتكتل له رؤيا مشتركة تحكمها مصالح متقاربة، على تلك القوى على الرغم من انتمائها الجغرافي والحضاري والهوياتي، فالعلاقة القائمة فيما بينها وفق تلك التراصفات هي من النوع الذي لا يصح معه إطلاق ذلك المسمى عليها.
بعيداً عن ميادين القتال تتشكل صورة مهمة على الرغم من أنها إحدى مفرزاتها، لكن من الثابت أن ثمة عوامل أخرى ساعدت، ولا تزال، في رسم المشهدية التي نراها، فعشية اليوم الـ100 لبدء العملية الروسية في أوكرانيا كانت قيمة الروبل الروسي قد ارتفعت في مواجهة الدولار بدرجة 120 بالمئة وآخر أرقامه التي سجلها يوم الخميس الماضي كانت 58 روبلاً للدولار الواحد في حين كان الروبل عند 140 روبلاً للدولار الواحد بعد 10 أيام من بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا في 24 شباط الماضي، وفي 2 آذار الماضي أعلن المصرف المركزي الروسي أن بيع الذهب، وشراؤه سيكون عند 5000 روبل للغرام الواحد، وهو إجراء يهدف إلى تثبيت سعر الروبل بالذهب وسلع أخرى، وفي أواخر شهر نيسان الماضي أعلن وزير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف أن «خبراءنا يعملون على إنضاج نظام نقدي يثبت سعر صرف الروبل مقابل الذهب وعدة سلع أخرى»، والجدير ذكره في هذا السياق أن الولايات المتحدة كانت أول دولة تقوم بربط عملتها بالذهب الأمر الذي شكل أرضية قوية، جنباً إلى جانب عوامل أخرى، ساعدت على «دولرة» الاقتصاد العالمي، قبيل أن تدفع بها عوامل عدة، من بينها قوة الاقتصاد والقوة العسكرية، إلى التخلي عن ذلك الربط في العام 1972، لتقوم بمد سوق المال بسيل هائل من أوراق عملتها في خطوة أريد لها أن تكون مؤشراً على «البطش» الاقتصادي الأميركي الذي لم يكن يقل تأثيراً عن نظيره العسكري الأميركي أيضاً، ومن حيث النتيجة كان الريع المتولد عن هذه العملية الأخيرة قد راكم فائضاً من الثروة بأساليب هي أقرب للنهب والسلب.
في السياق نفسه، لم تكد المئوية سابقة الذكر، تنقضي إلا وكانت 54 شركة أجنبية، بعضها يلعب دوراً محورياً في بلاده، قد أذعنت لشعار «ادفعوا بالروبل» الذي أطلقته موسكو بالتزامن مع الموجة الثالثة من العقوبات التي فرضها الغرب عليها في أعقاب الأزمة الأوكرانية، الأمر الذي قاد طبيعياً إلى انخفاض محتويات المصرف المركزي الروسي من الدولار الذي انخفض احتياطيه من 40 بالمئة في شباط 2022 إلى 11 بالمئة شهر أيار وفقاً لبيان صدر عن المصرف منتصف هذا الشهر الأخير.
ما تشي به السياقات السابقة هو أن روسيا تجهد بالتزامن مع المضي قدماً في عمليتها العسكرية نحو قطع الطريق على الهيمنة الاقتصادية على العالم، وما الضربات التي توجهها إلى «الدولرة» إلا تعبير عن قناعة لديها بأن هذا الأخير لن يسقط بالضربة القاضية، وسقوطه ممكن فقط بالنقاط، وما تشير إليه تقارير غربية وازنة، وهي صادرة عن مؤسسات غربية تحظى بمصداقية، أن الروبل اليوم بات على بعد خطوات تفصله عن الخروج تماماً من هيمنة الدولار، وعندها سوف يستطيع أن يتحول إلى عملة عالمية مستقلة تتسارع بنوك عالمية عديدة إلى مراكمة رصيدها منه.
كنتيجة يمكن القول: إن موسكو تريد العودة بالاقتصاد العالمي إلى ما قبل اتفاق «بريتون وودز» الذي قضى بأن يمهد الطريق أمام الدولار عبر ربطه بالذهب تمهيداً للسيادة الاقتصادية الأميركية على العالم عبر ربط عملات هذا الأخير به، قبيل أن تمزقه إدارة ريتشارد نيكسون مطلع السبعينيات من القرن الماضي بعدما أيقنت غرف صناعة القرار في واشنطن أن المرامي من ذلك الاتفاق قد تحققت ولم يعد التقيد بمنهجيته أمراً مفيداً للمصالح الأميركية العليا، في حين تقوم المنهجية الروسية للعودة المرتجاة سابقة الذكر على ربط الروبل بالذهب، وكذا بسلع أخرى عديدة مثل الغاز والطاقة عموماً.
باتت ميادين القتال في أوكرانيا مرهونة بتوازنات دولية، وهي على أهميتها، لم تعد الأهم في المشهد المرتسم على ضفاف الأزمة، بل إن الأهم يقع عند التهتكات التي تصيب نسيج الاقتصاد الغربي الذي بات مهدداً بفقدان هيمنته، وإذا ما كان الروس قد أخذوا على عاتقهم البدء بعملية التمزيق، إلا أن تمام الفعل يحتاج إلى «سكاكين» عدة لعل أبرزها «السكين» الصيني التي تبدو وكأن حاملها يميل إلى ضبط النفس الذي تعود دوافعه لعوامل غاية في التعقيد، وربما كان من بينها أن بكين قرأت مشهد الـ100 يوم بعنوان عريض هو «تعثر روسي»، ومن الراجح أن بكين لن تدلو بدلوها إلا إذا أدركت أن النقطة التي ستسكبها في الكأس المترعة ستكون كفيلة بفيضان الكأس وانسكابه.