ثقافة وفن

وهبي الحريري المعمار الحلبي الذي أقام أجمل صروح دمشق الحديثة … ليس له سوى لوحة واحدة في متحف الفن الحديث … من إسبانيا إلى الصين وتوثيق أشهر المساجد التاريخية

| سعد القاسم

يُعد وهبي الحريري – الرفاعي (1914-1994) أحد رائدين للفن التشكيلي في حلب (مع غالب سالم)، تتلمذا على يد منيب النقشبندي وأصبحا فيما بعد أساتذة عدد من أهم الفنانين التشكيليين الحلبيين، أمثال: طالب يازجي، وفاتح المدرس، ولؤي كيالي، وفتحي محمد. غير أن حظنا مع وهبي الحريري كان أفضل من حظنا مع زميله ومع أستاذه، فعلى حين وصلتنا بضعة أعمال فقط لغالب سالم، ولم يصلنا شيء من أعمال منيب النقشبندي، فإن لوحات وهبي الحريري تنتشر بشكل واسع على شبكة الإنترنيت. وعلى حين لا يوجد له سوى عمل وحيد في المتحف الوطني بدمشق، (لوحة مائية لصيدنايا زودتنا بصورتها مشكورة السيدة هيام دركل، الأمينة السابقة لجناح الفن الحديث في المتحف)، فإن أجمل صرح معماري في دمشق هو من تصميمه، وأعني ضريح وساحة الشهيد عدنان المالكي في أعلى الشارع الذي يحمل اسمه، واللذين يضمان العمل النحتي الرائع لفتحي محمد – قباوة، رائد فن النحت الحديث في حلب وسورية.

الميل إلى الفن ودراسته

اكتشف وهبي الحريري منذ طفولته ميله إلى الرسم والنحت والتعبير من خلالهما على العالم حوله، وقد أدرك والدته موهبته فعمل على تنميتها، وشجعه على السفر إلى إيطاليا في عام 1932 لدراسة الفن في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة Reale Accademia di Belle Arti في روما، إحدى أقدم وأهم أكاديميات الفنون الجميلة في إيطاليا. تدرب الحريري في روما على يد كارلو سيفيرو وهو فنان أكاديمي كبير، وكان رئيساً لأكاديمية سان لوكا، وعضواً في المجلس الأعلى للفنون الجميلة. كما درس في الوقت ذاته علم الآثار والحفاظ عليها في المعهد الوطني لتاريخ علم الآثار بين عامي 1937-1939 وشارك في البحوث الأثرية والدراسة في اليونان. وفي هذه السنوات الدراسية المكثفة تعلم كل ما يمكن معرفته عن تاريخ وممارسة الفن وعلم الآثار. وربما ساهمت هذه الدراسة في تعميق شغفه بالآثار، أو لعلها كانت نتيجة لهذا الشغف الذي رافقه منذ بداية دراسته، وحتى آخر أيام حياته. ويظهر هذا الشغف بداية من رسم يبدو – لدقته – وكأنه صورة فوتوغرافية لتاج عمود كورنثي، قدمه ضمن فحص القبول للأكاديمية. وصولاً لآخر أعماله التي وثق فيها أهم الأبنية الإسلامية من الأندلس حتى الصين. وهي – كما قيل عنها – أكثر من مجرد رسوم توضيحية للمباني القديمة والآثار التاريخية. فهي تكشف عن رابطة تعبدية بين الفنان والموضوع في عملية إبداعية.

أسس أول محترف بحلب

في عام 1937 عاد إلى حلب بعد أن سبقه إليها في العام السابق غالب سالم كأول متخرج من أكاديمية الفنون الجميلة، وأسس أول محترف للفنون فيها، وكان من مريديه (فتحي محمد قباوة) الذي قدّم تجارب نحتية متميزة قبل سفره للدراسة في القاهرة وروما في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين. إضافة إلى عمله في مجال الآثار حيث عُين مفتشاً عاماً للآثار والمواقع التاريخية، وعمل على الحفاظ على المواقع الأثرية المهمة في سورية. قام بتدريس الفن في ثانوية التجهيز الأولى (المأمون). وكان من طلابه فاتح المدرس الذي قال عنه «لقد علمني وهبي الحريري الأناقة في الرسم، وكيف يجب أن تنظر إلى الأشياء باحترام وتتابعها وفقاً لذلك، والترتيب الدقيق للكون. في الواقع، كانت فرصة عظيمة، فقد تعلمت على أيدي أساتذة خبراء».

شارك وهبي الحريري في الأنشطة المناهضة للاحتلال الفرنسي لسورية. واعتقلته قوات الاحتلال عام 1941 لمدة أربعين يوماً بعد إحدى التظاهرات المطالبة بالجلاء. ولكن هذا الاعتقال لم يبدل من موقفه، فأشعلت تلك القوات النار في مشغله ودمرت الكثير من لوحاته ومنحوتاته التي كان يتحضر لإقامة معرض لها. في عام 1948 وبعد جلاء الفرنسيين عن سورية، حصل على منحة دراسية لدراسة الهندسة المعمارية في جامعة ييل في الولايات المتحدة، لكنه اختار دراسة الفن والعمارة، في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، والمحافظة على المواقع التاريخية، في مدرسة اللوفر.

في مديرية الآثار والمتاحف

إثر إنجاز دراسته وعودته إلى سورية عام 1954 تم تعيينه كبير المهندسين في المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق. وكان من الأسماء المبكرة التي ظهرت على ساحة الإبداع في مجال الديكور مع بدايات معرض دمشق الدولي عام 1954 إلى جانب فريد زنبركجي وخالد معاذ، وسعيد النابلسي. وبعد عامين أنجز تصميم نصب عدنان المالكي في دمشق، وفي العام 1962 قام بترميم مسجد خالد بن الوليد في حمص وتصميم الساحة المحيطة به.

يتحدث الدكتور عفيف البهنسي في مذكراته الصادرة عن (وثيقة وطن) عام 2018 عن تأسيس المعهد العالي للفنون الجميلة عام 1960 (كلية الفنون الجميلة حالياً) بالتعاون مع جامعة الإسكندرية، فيقول: «عندما عاد عميد المعهد حسين فوزي إلى مصر بعد الانفصال، طُرح اسم وهبي الحريري ليكون عميداً للمعهد، وهو أول بوزاريست سوري (خريج مدرسة البوزار) وكان أقوى فنان في FREE HAND (اليد الحرة)، لكن الأمر لم يتم، وذهب الحريري إلى السعودية حيث حظي بتقدير كبير».

خارج حدود سورية

عُين كبير المهندسين المعماريين في وزارة الأشغال العامة في المملكة العربية السعودية، منذ وصوله إليها عام 1964، وكان أول عمل له تصميم حرم جامعة المدينة المنورة الذي سمح بالتوسعات المستقبلية. وفي أثناء تجواله في أنحاء المملكة أثار اهتمامه التراث المعماري والفني التقليدي فعمل على توثيقه بمجموعة من الرسوم وصفت بأنها تجمع بين احترام عالم الآثار للحقائق، وحساسية الفنان لروح المكان. وتم إنجازها عام 1981 ونشر نسخة طبق الأصل عنها بالحجم الكامل بعنوان (العمارة التقليدية في المملكة العربية السعودية)، بمساعدة ابنه مخلص، المهندس المعماري وخريج الفنون الجميلة.

الخاتمة بأشهر المساجد

انشغل خلال السنوات الأربع الأخيرة من حياته بمحاربة مرض السرطان، لكنه في الوقت ذاته أقدم على مشروع طموح قاده من إسبانيا إلى الصين لرسم أشهر المساجد التاريخية، حيث أنجز نحو مئة لوحة تجسد أسلوبه الكلاسيكي المميز. وقد قام ابنه بتجميعها بعد وفاته في عام 1994 وأطلق عليها اسم (الصروح الروحية للإسلام) وفقاً لرغبة الراحل.

توفي وهبي الحريري الرفاعي عن عمر يناهز الثمانين عاماً في 16 آب/ 1994، في مسقط رأسه حلب وأطلق اسمه على شارع في منطقة السبيل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن