ثقافة وفن

بين حَكَم والحَكَم!!

| إسماعيل مروة

أكثر من أربعين عاماً مضت على وجود «حكم» الرجل الطيب في مقهى الروضة، حتى صار من علامات المقهى، تستقبلك ابتسامته، ويصل إلى سمعك ترحيبه، وربما تنتظر ليقف إلى جانب طاولات لتعلم أن هذا القسم سيكون هو المسؤول عنه.. لا يتوقف عن الحركة، وإن كان الزحام يسمح فإن حكم سيقترب منك وأنت الصديق العتيق، وتجاوزت مرحلة الزبون الطيّار، يجلس معك ويحدثك ببعض القصص والحكايا التي يحفظها، وربما أعاد عليك القصص مرات ومرات بدراية وبغير دراية، وحكم لا يعرف أحد عنه شيئاً غير مستثمري القهوة، فهو لا يتحدث في أي أمر خاص، وإنما يكتفي بقصص تقترب من التراث يحدثك بها، وربما تحدث عن ذكرياته معك وأنت الصديق القديم.

وإذا ما كان من صديق مشترك بينك وبين حكم، سافر أو توفي فإنه لا يتوقف عن الحديث عنه، و حتماً يكون الحديث بالخير، وما من مرة تحدث حكم عن واحد بغير الخير، لأنه لا يريد أن يعرف سوى هذا الجانب منه.. ودون طلب منك يحدثك عن كثيرين تراهم، أو كنت تراهم معه، وعن مواصفاتهم الإيجابية.. ومنذ سنوات كنت كلما زرت المقهى يجلس معي حكم موارباً حتى لا يغضب معلموه من جلوسه مع زبون، ويتحدث عن رحلته وكفاحه و أسرته، ولا تجد منه سوى الشكر على ما كان في هذه الرحلة الشاقة، وكان كثيراً ما يقارن بين حياته وحياة البيك الذي كان يجلس هناك وارتحل، أو حياة ذلك الغني الذي مضى دون أن يشعر به أحد.. ومنذ شهور ذهبت إلى المقهى برفقة صديق حبيب، وجلسنا فجاء حكم- لست أدري كيف سألته: كل هذا العمر وأنا لا أعرف من أين أنت حكم! ضحك حكم وقال: شو بيهم من أين أنا، وحدثنا بلهجته، ثم سرد لنا أسماء بعض المناطق، وتركنا وقد عرفنا منطقته وشيئاً من تراثه مع أنه لم يقل علناً، فهو ابن الأرض، ومن حقه ومن الحكمة أن يرى نفسه ابناً للأرض، وهو الذي قدم ضيافته وابتسامته لكل زائري المقهى من كل محافظة في سورية، ومن كل بلد غير سورية، ولا مغالاة أن أقول إن حكم كان علامة فارقة في مقهى الروضة، فهو ينتمي إلى ذلك الجيل الذي يرتاح للآخر، ويتواضع، ويحبه الآخر، ومع الأيام يصبح صديقاً له.. أرأيت في الجيل الجديد مثل حكم إذا مرض أحد رواد المقهى يسأل عنه، وربما يزوره!

وكم من مرة اتصل بي حين كنت مداوماً يومياً؟! وكم من مرة رأيته في عزاء لأحد روّاد المقهى وقد رحل عن هذه الدنيا؟!

وحين عرضت الدراما شخصية (الحكم) بأل التعريف، ذاك الشخص السلطوي المتحكم القاتل وغير المحب، الظالم، المعتدي صارت صورة الحكم مختلفة.. وجد حكم أن واحداً آخر حمل الاسم، وصار معروفاً لدى الناس..! حزن الإنسان في حكم الطيب المبتسم، فجمع أغراضه ورحل عن الدنيا..

إن وفاة حكم تركت أثراً في النفس، ولعلي عندما قرأت رثاءه من أحد الأصدقاء الكتاب التونسيين أدركت أن طيبة حكم وحبه أهم بكثير من تسلط الحكم المسؤول الظالم!

محزن أن يرحل الطيبون بصمت ولا يشعر الآخرون بهم.. محزن ألا يحزن كثيرون ممن شربوا من يده وحبه!

محزن أن يمروا دون أن يلقوا التحية لروحه الطيبة..!

ما بين حكم والحكم مسافة كبيرة من البعد في كل شيء، وحتى الاسم تميز بـ أل التعريف التي تعطيك انطباعاً بالجبروت الذي لا يعرفه صديق المتعبين والفقراء والصحفيين والمثقفين.. الذي كان يجبر خاطر الذي ليس معه ثمن كاس الشاي أو القهوة فيضيفه حكم لأنه يعلم أنه ما من شيء يضيع بين الله والناس.

كم شهد حكم من آلام وآمال، وكم حطم الحكم منها!

كم أسعد حكم المرهقين والخائبين وكم سحقهم الحكم!

كم أعطى حكم من حب وكم اغتصب الحكم من أرواح!

ما بين حكم والحكم مسافة عمر، ولم يتمكنا من العيش معاً فوق أرض الشام.. لك الرحمات حكم الصديق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن