قضايا وآراء

دافوس بين التحريض ضد روسيا ومفاجأة كيسنجر

| الدكتور قحطان السيوفي

بعد عامين من الانقطاع، بسبب كوفيد-19، انطلقت أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» في سويسرا، تحت عنوان «التاريخ يقف عند نقطة تحول»، بمشاركةِ عددٍ من السياسيين ورجال الأعمال في الوقت الذي يواجه فيه الاقتصاد العالمي تحديات قد تكون هي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.

وجاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مع جائحة كورونا ليتفاقم الوضع بالإضافة إلى أزمتي الاقتصاد والطاقة العالميتين، أي ليصنع أزمة فوق أزمة، ما جذب النمو إلى مستويات أدنى ودفع بالتضخم إلى مستويات أعلى ويجعل ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة عبئاً ثقيلاً على البشرية، المنتدى الذي ركز على تداعيات الحرب الأوكرانية، غُيّبت عنه روسيا وحضره رئيس أوكرانيا واستخدام هذا المؤتمر لمحاصرة موسكو، والهجوم على دورها الإقليمي والعالمي ليتحول «دافوس» إلى أداة للتحريض ضد روسيا؟ وكان خطاب وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الأسبق وثعلب الدبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر مفاجأة مدوية في دافوس؛ حيث دعا أوكرانيا للتخلي عن جزء من أراضيها لروسيا، للتوصل إلى اتفاق سلام مع موسكو وأن تكون «دولة محايدة».

وأضاف: «روسيا كانت جزءاً أساسياً من أوروبا منذ 400 عام، وأسهمت في توازن القوى خلال الأوقات الحرجة التي مرت بها القارة، ويتوجب على الدول الغربية تذكر أهمية روسيا، مشدداً على ضرورة أن تبدأ روسيا وأوكرانيا بمفاوضات في الشهرين المقبلين، كما حذّر كيسنجر من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، ومحذراً الغرب من إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا، كما نصح كيسنجر الرئيس الأوكراني، بضرورة الشروع بتسوية مع روسيا والقبول بالوضع الميداني قبل خسارة المزيد.

كيسنجر نصح الرئيس الأميركي جو بايدن بأن يوضح للرئيس الأوكراني أن هناك حداً للمدى الذي يمكن أن تصل إليه الولايات المتحدة وحلف الناتو في مواجهة روسيا، خطاب كيسنجر السياسي الأميركي الثعلب صاحب التجربة الدبلوماسية الموسوعة، فتح الباب لطرح العديد من التساؤلات عن مآلات الأزمة الأوكرانية والخيارات المتاحة للأطراف المتصارعة ومنع اشتعال حرب عالمية، وثمة سؤال مهم، لماذا أدلى كيسنجر بهذه التصريحات المتفجرة؟ التي تستجيب للمطالب الروسية بالتأكيد، وكيسنجر في التسعينيات من عمره لا يبحث عن الشهرة، لكن لنفهم مضمون حديثه علينا أن نتذكر رأيه القائل: بلا تاريخ من الصعب أن نتعامل مع مشكلات الحاضر المعقدة.

لهذا يرى كيسنجر، أن على الدول الغربية التوقف عن محاولة إلحاق هزيمة بالقوات الروسية في أوكرانيا، لأن ذلك ستكون له عواقب وخيمة على استقرار أوروبا، بالمقابل واقعية كيسنجر أظهرت انشغاله بفكرة المحافظة على النظام الدولي، وهو عنوان كتابه الأخير «النظام الدولي الجديد» الذي انطلق أوروبياً من خلال معاهدة ويستالفيا التي أسست الهيكل الدولي الأساسي واستبعدت روسيا، ومن هنا يُفهم رأيه من خلال التاريخ، وهو أن روسيا مهانة ومهزومة وضعيفة يعني تهديداً مستمراً للنظام الدولي.

من جانب آخر عندما قال كيسنجر: «رغم أننا لا نتعرض للقصف، لكن الأسعار ترتفع» ربما كان كيسنجر يشرح بوضوح ما يفكر فيه الآخرون ولكنهم يخشون التعبير عنه، الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، المراهق سياسيا، وجه شتائم مهذبة إلى كيسنجر قائلاً في خطابه في دافوس، بأن كيسنجر كان ربما يتكلم عن حقبة سياسية مختلفة تعود إلى بدايات الحرب العالمية الثانية، وشبّه اقتراحاته بفكرة محاولات استرضاء هتلر وألمانيا النازية في عام 1938، مضيفاً إن تقويم كيسنجر لا يشير إلى عام 2022 وإنما إلى عام 1938، أي أن كيسنجر لا يعيش في القرن العشرين، بل خارج العصر، وزيلينسكي في كلمته تحامل على روسيا، وحرّض عليها لاستجرار المزيد من الدعم والسلاح والتدخل.

غادر الوفد الصيني المشارك في المنتدى احتجاجاً على خطاب زيلينسكي، علماً أن كيسنجر يرى أن الموقف الأميركي الغربي الحالي يعتمد على مواقف عدائية للصين وروسيا ستدفعهما للمزيد من التحالف.

لم تأت نصيحة كيسنجر من فراغ بل من خبرته بمزاج النخبة الأميركية لتعكس حالة الانقسام في الداخل بشأن الموقف الأميركي في دعم أوكرانيا ضد روسيا، وكيسنجر أدرك مدى خطورة الأزمة الأوكرانية وانعكاساتها المقلقة على حال الاتحاد في الداخل الأميركي، وزيلينسكي سيجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مر، فإما القبول بنصيحة كيسنجر بتسوية حسب شروط الرئيس فلاديمير بوتين، وإما تجرع مرارة العلقم التي أضحت حتمية.

ختاما، لا ننسى أن كيسنجر لعب دور كلب الحراسة للنظام الأميركي الذي كان هو أحد مهندسيه، خطابه في دافوس كان مفاجأة لمنتدى تحول إلى أداة للتحريض ضد روسيا، وما طرحه كيسنجر ليس من بنات أفكاره وحده وقد يعكس رؤية صناع القرار في الدولة العميقة بالولايات المتحدة الذين لا يريدون خوض حرب عالمية ثالثة، وربما تكون رؤيته صيغة لحل أطلسي نتيجته لا رابح ولا خاسر فيه إلا أوكرانيا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن