مكاسبه مؤقتة، وإغراؤه نشيط وقادر على القفز فوق القوانين والأنظمة بشكل خفي، والطامة الكبرى عندما يغدو علنياً، وهو سريع كسرعة النار في الهشيم، وكهين في إيجاد المبررات والمخارج هروباً من المساحات المنظورة إلى زواريب العتمة ومقتضياتها، إنه يهرب من الدولة وثوابتها القانونية والتشريعية إلى منحنيات الكراهية لكل من يتابعه أو يحاسبه أو حتى يحاول العمل على إصلاحه، وبدقة الفساد يكره الدولة بقدر كراهية الدولة الوطنية له، والفساد إغراء وإغواء، يحبه بعض من شرائح المجتمع إن كانت في القطاعات العامة أو من الخاصة، رغم خوفها من نتائجه، فهو كالشرِّ، يتسلل إلى الفكر الإنساني، يخترقه بهدوء إلى أن يتمكن منه، وأيضاً كالجريمة يحاول القائم بها أن يخفيها، وأكثر من ذلك يشبه كذبة كبيرة مهما طال أمد نجاحها، لا بد من أن يأتي أحد ما ليكشفها.
عندما يموت الضمير أو يغيب عن حضوره في فكر الإنسان، ويرفض الصح والنصيحة والإرشاد تُوءد المصلحة العامة، ويظهر التذاكي على المنطق الصح، ويجري البحث عن ثقوب القوانين للنفاذ منها وتحويل وجوده إلى نفوذ اقتصادي أو اجتماعي وحتى سياسي، من خلال اتخاذه لشرارات الضغط الصغيرة وغير المرئية، معتمدة أسلوب الذبذبة مع الاستشعار الاحترازي بشكل دائم، وسبب الفساد وجود نخبة فاسدة تسعى لتحقيق مصالحها على حساب تفشي الفقر والتخلف ومنعها لمواصلة التنمية وتعزيزها لانقسام المجتمع.
الدولة تكره الفساد، وتحاربه، وتكافحه عبر كل وسائطها، وربما تحتاجه في مرحلة أو لحين، لكنها لا تغمض لها عين عنه، لذلك تراه يستشعرها، ويتلطى بين هنا وهناك مظهراً ثوب الطاعة العمياء وجاهزاً على الطلب، كما يقف النادل انتظاراً للإشارة.
هذا يحدث في الأزمات، أما في فترات الاستقرار ودوران عجلات العمل فتخف عمليات الفساد إلى حدٍّ ما، لأن إنهاءها من الصعوبة بمكان، وهذا حضّ على كشفه ومكافحته مثلث القداسة وكتبه السماوية، حيث ذكرت فيها ضرورات متابعته، لذلك ونحن في عالم غدا أميَل للانفلات من الانضباط، نجده يدعو للقسوة التي تعتبر ميزة هذا الزمان الصعب، لأن ظروف الحياة مربكة نتاج التكاثر الهائل والحروب وانتشار الإرهاب وقلة الموارد، والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد أصبحت معقدة، فكيف بها بين المجتمعات والدول؟ وهذا يأخذ بنا للقول: إن هناك ما يشبه الانفلات على المبادئ والقيم من أجل استعادة بشريتهم على حساب الإنسانية، ما خلق تناقضات صادمة، تجده يشقّ طريقه في سلوك الكثيرين الذين يبدون في المظهر كالحملان، وفي الجوهر مستعدون للانقضاض على كل شيء.
جدلية الفساد مسكونة في جوهر الإنسان، وتجسد الصراع الأولي مع الصحّ الذي يحميه الضمير، هذه التي لا تنجح، وأقصد الجدلية إلا بعد تغييب الضمير الذي يستيقظ مبكراً أو متأخراً، ليحقق الانتصار النهائي عليها، إن لم يكن هذا في داخل الإنسان ذاته يكن في الذي أمامه كمتابع لمسيرته وحركته وأفعاله وأعماله، لأن الحياة وعبر مسيرتها التي نحن جزء منها لم تدوّن إلا انتصار الصحّ على الخطأ، وإن طال وربما حدث تأقلم مؤقّت مع الفساد لضرورات ما، إلا أن هذا التأقلم آيلٌ إلى السقوط، ومهما كانت قوى الفساد قوية ومنتشرة وذات أبعاد سياسية واقتصادية وإعلامية، وحتى إن عملت بالوكالة كواجهات فإنها وعندما تَسقط تُسقط معها الوجوه الحقيقية الظاهرة والخفية التي تحمي الفساد وتحميها.
ليست الدولة وحدها مسؤولة عن الفساد، فالفساد مسؤولية أخلاقية، تبدأ من ذات الفرد ومقاومتها له ومنعه من السيطرة عليها والاستشراء فيها، وفي الأسرة التي واجبها التمسك بتعاليم الحياة الحميدة والحثّ على البناء الصحّ والاستقامة في المسير، فإذا بنينا على الصحّ صلح المجتمع، وصلحت الدولة، فالفساد روائحه كريهة مهما تعطّر، وبناؤه هش مهما تجمَّل، ولا يمكن تنمية المجتمع وتحقيق أي من أهدافه إذا عمَّ الفساد، الذي أخذ شكلاً عالمياً، فالتعدي على الحقوق والعدوان على الأمم والشعوب والسيطرة على الاقتصادات الناشئة والإرهاب المحلي والدولي وتجاوز القانون والتلاعب في الأسعار والغش في قوت الناس والمنتجات كلها نوع من أنواع الفساد، الذي يدعونا اليوم كما يدعو العالم بشكل عاجل إلى العمل الحثيث والصادق لمعالجة هذه الأزمة الكبرى التي فرّخت أزمات لم تشهد المجتمعات مثيلاً لها عبر تاريخها.