منذ مطلع الألفية الراهنة، كانت الأرقام الصادرة عن مؤسسات الاقتصاد والتكنولوجيا الصينية، وتلك المسؤولة عن شق طرقات هذي الأخيرة لإيصالها إلى حيث يجب أن تصل، تتنبأ بأن القرن الواحد والعشرين سيكون «قرن الصين» بلا منازع، وأقله أن مناخات ذلك القرن ستكون محكومة بالصراع الدائر بين الصينيين والأميركيين، حتى ليكاد هذا الأخير يصبح محدداً لأدق التفاصيل والمناخات الراسمة له، والمؤكد أن واشنطن كانت تتحسس سريعاً، وتحلل، تلك الأرقام التي راحت تتخذ، أثناء رسمها لخطها البياني، منحنى صاروخياً يصعب التكهن بالامداء التي سيحققها في غضون المراحل القريبة وتلك المتوسطة المدى، وفي المحاولة الأميركية لفرملة الجرافة الصينية ابتنت واشنطن إستراتيجية تقوم على محورين اثنين، أولاهما «ورقة تايوان» التي بدت بالنسبة لواشنطن ذات طبيعة استفزازية يسهل استخدامها للضغط على الأعصاب الصينية بغية إخراجها عن هدوئها الذي تميزت به، بل الذي مثّل على الدوام عامل قوة يصعب معه لحظ ما وراءه، وثانيهما محاولة واشنطن نقل مركز اهتمامها إلى المحيط الهادئ الذي بدا، من خلال السلوك الأميركي، أنه سيكون مركز ثقل العالم بدءاً من الربع الثاني لهذا القرن.
منذ سنتين، أي في أواخر عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، سعت واشنطن إلى تركيز اهتمامها على المحيط الهادئ الذي لم يكن اهتمامها به حديثاً، بل تعود بداياته للمرحلة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تبدى الاهتمام الأميركي بتلك المنطقة عبر إنشاء بنى تحتية وقواعد عسكرية تكون من النوع الخادم لتمددها في العالم، إلا أن تلك البنى سرعان ما تم إهمالها انطلاقاً من أن الجغرافيا التي قامت عليها لم تكن أساسية في الصراع الذي كان دائراً مع القطب السوفييتي على سيادة العالم، إلا أن الحال تغيرت مع تغير النظرة الأميركية التي تركزت عند أولوية المواجهة لـ«الخطر الصيني» الذي بات يمثل التحدي الأول للهيمنة والسيادة الأميركيتين، وعلى الرغم من أن واشنطن راحت تعمل على إحياء مراكز نفوذها القديمة، تلك التي فتك بها الإهمال، إلا أن النجاح في ذلك الفعل ظل على الدوام دون المستوى المطلوب الذي يمكّن واشنطن من مجاراة بكين، والمؤكد أن الصراع الدائر في أوكرانيا، والذي وصفه أمين عام حلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ في أعقاب لقاء جمعه مع الرئيس الأميركي جو بايدين في الثاني من حزيران الجاري، سيكون «حرب استنزاف طويلة المدى»، هذا الصراع سيضعف من السعي الأميركي للحاق بركب الصين في محيطها الهادئ والذي تسعى برامجها لأن يكون اسماً على مسمى.
عقدت بكين مع جزر سليمان اتفاقاً أمنياً منتصف شهر نيسان الماضي، يمنح الأولى حق إرسال قواتها لقمع أي اضطرابات وكذا لحماية الاستثمارات الصينية، ثم مضت بكين والفرصة تبدو سانحة، إذ كيف يمكن لغرب مارس أقصى ما يملكه من ضغوط عسكرية واقتصادية على روسيا، وهو لم يستطع من خلالها أن يشكل عاملاً رادعاً أمام الأخيرة لتغيير خياراتها الرامية إلى تعزيز أمنها واستقرارها، نقول كيف يمكن لذاك الغرب أن يستطيع، ولو طبق نظائر لتلك الضغوط على بكين، لدفع هذي الأخيرة نحو ما أخفق فيه مع الروس، المضي الصيني برز كاندفاعة جامحة نحو الاستثمار في البنى التحتية لدول المحيط، أو أغلبها، من نوع إقامة الموانئ وإنشاء المطارات ثم تطوير شبكات الطرق والكهرباء، وما يجعل المضي آنف الذكر هو أن تلك الدول ترى أن «التشاركية» التي تطرحها بكين كإطار لعلاقاتها مع تلك الدول تسهم بشكل كبير في بناء قدراتها، بعكس التعاون مع الولايات المتحدة الذي ظل «فصلياً» أو أن حركته تتحدد عبر حالات الاحتياج حتى إذا ما انتفت هذي الأخيرة كان ذلك مدعاة للتهميش حتى ولو كان المسار في «منتصف البئر».
تبدو محاولة اللحاق الأميركية بالركب الصيني في «الهادئ» أشبه بمحاولة عداء ذي سمعة حسنة وباع طويل في المهنة، لكن ما جرى هو أن «لياقته» قد تدنت بشكل كبير لاعتبارات تتعلق بالكثير من المعطيات، على حين يظهر العداء الصيني المزيد منها مستثمراً بما يكفيه للفوز في السبق.
كنتيجة يمكن القول إن الصراع الدائر راهناً حول النفوذ بين بكين وواشنطن في الهادئ سيلعب دوراً محورياً في نتائج الصراع الدائر بينهما على السيادة العالمية، واللافت هو أن الكثير من المؤشرات يوحي بانحدار النفوذ الأميركي في الساحة الأولى، أي ساحة المحيط الهادئ، وما سيزيد من تلك الانحدارية هو انشغال واشنطن، ومعها الغرب، في الصراع الدائر في أوكرانيا والذي من المقدر له أن يطول ويطول فتكون المدة كفيلة بمنح فرصة سانحة للصين لتعزيز نفوذها في محيطها «الهادئ» مقتربة بشكل كبير من كسر السيادة الأميركية بطريقة أنجع مما يفعله الروس الذين فُرضت خياراتهم عليهم دونما استئذان.