لا يمكن نكران دهاء رئيس النظام التركي وقدرته على استغلال الفرص والأزمات العالمية، وتجييرها لمصلحته بشكل أو آخر، الأمر الذي أفضى إلى امتلاكه فيضاً من أوراق الضغط والمساومة على جميع جبهات الصراع الإقليمية والدولية، من سورية إلى أوكرانيا وليبيا والعراق، إلا أن المؤكد وحقيقة الأمر التي يعيها رجب طيب أردوغان جيداً أن مفاعيل تلك الأوراق جميعها يساوي الصفر، وشيك بلا رصيد، إن لم تمهر بخاتم الموافقة الروسية أو الأميركية أو الاثنين معاً من أجل إمكانية صرفها في أرض الواقع، ومن هذا المبدأ يؤكد موقع «المونيتور» الأميركي أنه من المتوقع أن يمتنع أردوغان عن توجيه القوات إلى تل رفعت ومنبج بريف حلب دون ضوء أخضر من الولايات المتحدة الداعم الرئيس لميليشيات «قسد» أو روسيا الحليف الرئيس للدولة السورية.
أردوغان الذي أعلن قبل أسابيع نيته القيام بعمل عدواني ضد أراض سورية في الشمال الشرقي، بحجة محاربة ما سماه الإرهاب، ولإقامة ما تسمى «منطقة آمنة» بعمق 30 كم، يتكئ على امتلاكه ما ذكرنا من فيض أوراق ضغط، سواء ورقة اللاجئين السوريين على أرضه، وإمكانية التلويح بها في وجه أوروبا، وموقفه مما يجري في أوكرانيا، وإمكانية تحول أنقرة إلى وسيط لنقل القمح من أراضي أوكرانيا إلى العالم، إضافة إلى امتلاكه «الفيتو» في حلف «الناتو» في وجه سعي الإدارة الأميركية لضم فنلندا والسويد إلى الحلف، وهذا كله دفع به إلى المضي قدماً في تهديداته وحشد المزيد من قوة بلاده العسكرية على خطوط المواجهة مع الجيش العربي السوري، وميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد»، رغم التحذيرات الدولية من خطورة قيامه بأي عدوان ضد الأراضي السورية.
وقوف القوات الروسية في وجه التصعيد التركي، عبر سلسلة من الإجراءات الميدانية، فرملت اندفاعة أردوغان من الإقدام على أي عدوان، إلا أن الجانب الروسي يعي جيداً أن أردوغان بتهديداته تلك صعد إلى أعلى الشجرة، ولا بد من إيجاد سلم مناسب لإنزاله عنها، بما يجعله يظهر بصورة غير المهزوم، وهنا يؤكد موقع «المونيتور» أن زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى أنقرة اليوم تأتي في هذا الإطار، وخاصة بعد تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، الممثل الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط وبلدان إفريقيا، الأسبوع الماضي إن المسؤولين الروس بحاجة إلى التحدث مع نظرائهم الأتراك أولاً، وأن مسؤولي وزارة الدفاع سيرافقون لافروف في الرحلة، مع اقتراح موسكو الدائم أن تعمل أنقرة مع دمشق على أساس اتفاق أضنة لعام 1998 بشأن التعاون الأمني بين البلدين.
بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، ليس بالأمر الوارد نظراً لأنه يثبّت هزيمة واضحة لأردوغان، الأمر الذي لن يلقى قبولاً لديه، وهو الطامح بجني ثمار على الصعيد الداخلي والخارجي، وعليه فقد تعددت السيناريوهات المحتملة لما هو قادم، إذ يرجح انتشار جديد للجيش العربي السوري في مواجهة قوات الاحتلال التركي لتفادي أي عمل عدواني جديد، ليكون هناك احتمال ثان في حال رفضت ميليشيات «قسد» انتشار الجيش العربي السوري في المناطق التي تسيطر عليها، كما حصل 2018 في عفرين، والاحتمال هو ذهاب الاحتلال التركي إلى عمل عسكري محدود، يشكل سلم نزول لأردوغان من على الشجرة، لأن عدم حصول أي تحرك عسكري ميداني لقوات الاحتلال التركي سيحرم أردوغان من إمكانية التحدث برواية «النصر» والاستثمار بها داخلياً، سواء ضمن أوساط مؤيديه، أو في وجه معارضيه.
وهنا يتساءل موقع «المونيتور» حول «ما إذا كان بإمكان الجانب الروسي منح تركيا تنازلات معينة دون أن تؤدي إلى قلب العواقب على الأرض من أجل المصالح الإستراتيجية خارج سورية، على سبيل المثال، قد يكون فتح مساحة لتركيا عند وصلات M4 و M5 معينة أو السماح لتركيا بشن عملية عسكرية مع الاحتفاظ بحق الجيش السوري في الرد احتمالات قابلة للنقاش».
مع تعدد الاحتمالات والسيناريوهات لإمكانية إقدام النظام التركي على القيام بعدوان من عدمه، يبقى الموقف السوري الأوحد الواضح والصريح والمعلن، بعدم التفريط ولو بذرة تراب واحدة من أرض الوطن، لتؤكد دمشق أن التهديدات العدوانية للنظام التركي تشكل انتهاكاً سافراً للقانون الدولي، ولسيادة ووحدة وسلامة أراضي الجمهورية العربية السورية، كما أنها تتناقض مع تفاهمات ومخرجات مسار أستانا وتشكل تهديداً جدياً للسلم والأمن في المنطقة وتنسف كل التفاهمات السابقة برعاية دولية والتي تمت على خطوط مناطق «خفض التصعيد».