صلاح الناشف أول التجريديين في جيل الرواد الأول … عشقه للفن أنهاه بالتسمم بأكسيد الرصاص في الدم … الكائنات في تقطيع هندسي يناسب رؤيته الفنية
| سعد القاسم
نكاد نجهل كل شيء عن طفولة ونشأة صلاح الناشف (1914-1971) سوى أنه ولد في حي القنوات، كما رشاد قصيباتي، وأنه درس في مكتب عنبر، وعاش طفولة يتيمة بائسة بعد فقدان أمه في وقت مبكر من حياته.
يشير بشير زهدي في مقالة له عن تاريخ الفن التشكيلي السوري إلى صداقة جمعت بين صلاح الناشف وزهير الصبان، وتتحدث عدة مصادر عن أنه زامل سهيل الأحدب خلال دراستهما معاً في إيطاليا منذ عام 1936 حتى عام 1939 حين عاد إلى دمشق وبدأ مشاركته الحيوية في نشاطها الفني الفتي بحيث كاد يكون حاضراً في كل تجمع فني. فقد شارك قبل عودته من إيطاليا بتأسيس دار الموسيقا الوطنية عام 1937 التي كان بين أعضائها عدد من التشكيليين كنصير شورى وعبد العزيز نشواتي وعدنان جباصيني ومحمود جلال، والذين أسسوا أحد أقدم مراسم دمشق في غرفة صغيرة من مقرها في المبنى الذي يشغله حالياً النادي الأهلي (الرياضي) في شارع الشهداء. وبعد أن انسحب الفنانون التشكيليون من الدار.
التأسيس النقابي
شارك الناشف في تأسيس الجمعية العربية للفنون عام 1941، وفي العام ذاته كان من المشاركين في مرسم فيرونيز مع محمود جلال وعدنان جباصيني (صاحب المقر) ومحمود حماد ورشاد قصيباتي ونصير شورى وعبد العزيز نشواتي. ثم شارك في تأسيس الجمعية السورية للفنون عام 1950 في منزل خالد معاذ بشارع 29 أيار. وفي نهاية العام ذاته انفصل التشكيليون عن الجمعية، عندما توسع نشاطها إلى ميادين عدة، وأسسوا رابطة الفنانين السوريين للرسم والنحت التي ضمت أعضاء جمعية محبي الفنون الجميلة، وقدم لها صلاح الناشف منزله في شارع الشعلان. وحمل فيها مسؤولية الشؤون العامة وإعداد المعارض، وكان هذا أمراً طبيعياً بحكم ما اتصف به من صفات شخصية يسردها ممدوح قشلان في كتابه (نصف قرن من الإبداع التشكيلي) الصادر عام 2006 بالقول: «طويل القامة، جميل الطلعة، باش الوجه والأسارير، يتحدث بهدوء ومودة، قريب إلى النفس، تستطيب صداقته منذ اللقاء الأول وكأنك تعرفه منذ زمن بعيد». بدورها لعبت الرابطة دوراً كبيراً في تنشيط الحياة الفنية وإقامة المعارض، وفي إلغاء مبدأ جوائز المعرض السنوي أواخر الخمسينياتمن القرن المنصرم، والتي كانت تثير حساسيات كبيرة في الوسط التشكيلي. وكذلك في قسم المعرض السنوي منذ عام 1959 إلى معرضين في دمشق وحلب (الخريف والربيع). ويذكر د. عفيف البهنسي في مذكراته الصادرة عام 2018 عن مؤسسة وثيقة وطن، أنه شارك بتأسيس جمعية أصدقاء الفن (1963) مع صلاح الناشف ومحمود جلال ومحمود حماد وأدهم إسماعيل وجاك ورده والسيدة منور مورلي، وأنهم كانوا يقيمون المعارض، ويعلمون التصوير مجاناً للهواة في مقر الجمعية المواجه لمدرسة الفرنسيسكان (دار السلام).
الناشف والتدريس
قام صلاح الناشف بتدريس مادة التربية الفنية منذ عودته من روما عام 1939 وتتلمذ على يديه طلاب معظم ثانويات دمشق، كما درَّس مبادئ التصوير الزيتي في مركز الفنون التشكيلية بدمشق. وفي عام 1961 عُيّن مفتشاً أول للفنون في وزارة التربية حتى عام 1969 حيث استقال من عمله وتفرغ للعمل الفني وجمع التحف، وخاصة السجاد القديم. سُمِّي عضواً في لجنة الفنون التشكيلية في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في سورية منذ عام 1960 حتى وفاته، وعضواً في لجنة المقتنيات والمعارض في وزارة الثقافة منذ عام 1964 وكان عضواً مؤسساً في نقابة الفنون الجميلة عام 1969. وشارك في تحكيم مشاريع تخرج طلاب التصوير في كلية الفنون الجميلة بعد تأسيسها عام 1960، وأصدر له المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام 1962 كتاباً من تأليفه عن مايكل أنجلو.
نحو الواقعية
يذكر د. غازي الخالدي في نصه عن صلاح الناشف المنشور في الموسوعة العربية أنه «بدأ في التصوير الزيتي بالاتجاه نحو الطبيعة والواقع، ورسم الوجوه، ورسم المناظر الطبيعية، ورسم موضوعات متنوعة ومختلفة. كان يجمع بين الواقعية في الموضوع وبين الانطباعية في التقنية، أما المضمون فكان في أكثر أعماله تعبيرياً، يهتم بالمدلول الرمزي التعبيري سواء في ملامح الوجوه، أم في رسم الأشجار، فيحرك أشجاره وكأنها تعني أشكالاً مختزلة للإنسان بطريقة رمزية، سواء من حيث الحركة أم من حيث اللون أم من حيث الملمس… أعماله الأولى كانت واقعية من حيث الشكل، تقليدية الملامح من حيث الموضوع، وانطباعية من حيث الألوان والتقنية، ولاسيما لوحات أحياء دمشق القديمة ومن أهمها لوحته مئذنة العروس، فألوانه شفافة ولمساته عريضة، وأهم ما في هذه الألوان أنها من فصيلة لونية واحدة وبدرجات متفاوتة ومتقاربة الدرجات من حيث طبيعتها، وهي في الغالب من فصيلة الألوان الباردة، وعلى رأسها اللون الأزرق، ثم يأتي بعده اللون الأخضر».
أهمية النص المقتبس السابق أنه يشير إلى الأعمال الأولى لصلاح الناشف التي لا نعرفها – أو على الأقل التي لم أرها شخصياً – مع أن وثيقة نشرتها السيدة لبنى محمود حماد تشير بدورها إلى طبيعة هذه الأعمال، والوثيقة هي (إجازة تصوير) من المدير العام للشرطة والأمن بتاريخ 1953-3-28 تطلب من منتسبي الدائرة في سورية تسهيل مهمة الفنانين بأخذ مناظر مختلفة متعددة في مختلف المحافظات السورية لطبعها في المنشورات التي ستصدرها مديرية معرض دمشق الدولي، وتقديم المساعدة لهم للقيام بمهمتهم الفنية. وتحدد الإجازة أسماء الفنانين: عدنان جباصيني، محمود حماد، ميشيل كرشة، محمود جلال، نصير شورى، صلاح الناشف، رشاد قصيباتي، وعبد العزيز نشواتي.
لوحات قليلة وإبداع
أعمال صلاح الناشف الشائعة والمعروفة، والتي قد لا تتعدى أربع لوحات، تنطلق من المشهد الواقعي الطبيعي نحو التجريد التعبيري باستخدام خطوط لينة منحنية كما في لوحتيه (شجرة) و(أشجار)، أو نحو ما يشبه التجريد الهندسي، حيث يُقطّع صور الناس والحيوانات والأشجار إلى أشكال هندسية تغلب عليها المثلثات، مثل لوحته (الحطاب) التي صورها أواخر الخمسينات، ولا نملك صورة ملونة عنها، و(الحطابون) و(أشجار). شارك الناشف في المعرض السنوي لأول مرة عام 1953، ومن ثم شارك به بانتظام منذ عام 1955 كما شارك في معظم المعارض التي أقامتها وزارة الثقافة في سورية وخارجه، ومُنح عام 1961 براءة تقدير من الوزارة الثقافة على نشاطه وعمله الفني.
الموت فناً
أصيب بما يعرف بـ(مرض المهنة) وهو التسمم بأكسيد الرصاص في الدم، ولم يمهله المرض إلا ثلاثة أشهر، وتُوفِّي في منزله بدمشق. ويذكر ممدوح قشلان في كتابه السابق الذكر أن صلاح الناشف قال له وهو على سرير المرض:
«ما الإنسان؟.. الإنسان في عمله المخلص. الإنسان في حبه للآخرين. الإنسان في الجو الذي يضفيه على من يعيش معهم ويعاملهم. الإنسان في جو المحبة والعطاء الذي ينشره بين الناس. الإنسان يأتي ثم يذهب ولا يبقى له في الدنيا سوى عمله وذكرى المحبة والود الإنساني..».