الاعتداءات التركية مؤخراً على منطقة قريبة من تواجد القاعدة العسكرية الروسية في منطقة تل رفعت بريف حلب الشرقي، ضمن العدوان الذي لوح به رئيس النظام التركي رجب أردوغان لإقامة ما سماها المنطقة الآمنة ساعياً لاستغلال الظروف الإقليمية والدولية ولتحسين تموضعه الانتخابي، جاءت لتضع العلاقة الروسية التركية على المحك، وتضع في الوقت ذاته هذه العلاقة تحت مجهر التوصيف الدقيق، من خلال طرح مجموعة من الأسئلة، حول ماهية هذه العلاقة ومدى قوتها وشكلها غير المتجانس؟
إذ وعلى الرغم من ارتفاع معدلات نمو التبادل التجاري بين الجانبين لمستويات غير مسبوقة حيث تجاوزت عام 2021 ما نسبته 57 بالمئة عن العام السابق أي أكثر من 33 مليار دولار، إلا أن التطورات الدراماتيكية التي تشهدها الجغرافيا السورية والإقليمية والدولية من صراعات وأزمات تؤدي تركيا دوراً بها، عبر التدخل المباشر أو عبر سلوكيات ملونة ومتقلبة، لا يوحي بأن العلاقة بين الطرفين هي علاقة إستراتيجية ولن تصبح كذلك في المستقبل القريب، إن بقيت العقلية العثمانية هي السائدة في الحياة السياسية التركية، وهو ما يؤكد أن الخيار الذي انتهجته روسيا في التقرب من تركيا كمحاولة لاحتوائها، لم يكن صائباً، ولاسيما أنه جاء نتيجة الضرورة التي فرضتها التطورات الدولية على كل من الدولتين في مرحلة معينة، حيث سعت أنقرة للتوسع شرقاً من خلال تطوير علاقتها مع روسيا ما يتيح لها التقارب مع الصين والاستفادة من مشروعها الجيو اقتصادي بعد إغلاق الأبواب أمام دخولها للاتحاد الأوروبي، واعتبرت موسكو حينها أن تصاعد وتيرة الخلافات بين تركيا وأميركا وبين الأولى والأوروبيين ستكون فرصة يسهل استغلالها لتغيير تحالفات تركيا وتجريدها من العباءة الأطلسية.
هناك العديد من المؤشرات التي يمكن الاستناد إليها في إطار الرؤية المتضمنة «عدم تحول العلاقة بين روسيا وتركيا إلى علاقة إستراتيجية تحالفية» تبعاً للسياسة الداخلية والخارجية التركية:
أولاً- طبيعة العلاقة التي كانت تحكم الجانبين على المستوى التاريخي ولاسيما منذ أربعة قرون، هي علاقة تشهد شداً وجذباً بين الطرفين، إذ دخلت الدولتان 15 حرباً خلال هذه القرون الأربعة كانت أولاها بين عامي 1676-1681، على إثر رفض تركيا آنذاك التخلي عن جزيرة القرم لروسيا القيصرية ومحاولة منع الأسطول الروسي من الوصول للمياه الدافئة في المتوسط، حتى في العصر الحديث كادت الحرب أن تنشب بين الطرفين بعد إسقاط تركيا لطائرة «سو-24» روسية على الأراضي السورية، ومسارعة أردوغان لطلب المساندة من الناتو الذي خذله، ونشر الجانب الروسي لمنظومة «إس-400» في قاعدة حميميم السورية وقطع جميع قنوات التنسيق العسكري مع تركيا وفرض الحصار الاقتصادي عليها، إلى أن قدم أردوغان اعتذاراته بجميع اللغات للروس.
ثانياً- على الرغم من أن روسيا الاتحادية منحت تركيا امتيازات في المجالات المختلفة، منها العسكرية متمثلة بتزويدها بمنظومة «إس-400»، وقامت ببناء أربعة مفاعلات نووية في مقاطعة مرسين التركية منذ عام 2018، وقامت بافتتاح خط السيل الجنوبي عام 2020، وغيرها الكثير من الامتيازات، إلا أن النظام التركي ظل متمسكاً بالحظيرة الأطلسية، وقام بسلوكيات عدائية مباشرة وغير مباشرة ضد روسيا ومصالحها ونفوذها في سورية وليبيا وإقليم كره باخ وأوكرانيا وبلاد جنوب القوقاز، التي شهدت توترات متصاعدة تضر بالمصالح القومية الروسية خلال العقود الثلاثة السابقة بسبب السلوكيات التركية في أذريبجان وجورجيا وأرمينيا وأوكرانيا، حيث شهدت هذه الدول زيادة في الدور السلبي التدخلي لتركيا.
ثالثاً- رئيس النظام التركي مازال يجاهر ليلاً نهاراً وفي مختلف المناسبات أنه لم ولن يعترف بحق روسيا في السيادة على جزيرة القرم التي استعادتها عام 2014.
رابعاً- استغلال النظام التركي الصراع الدولي في أوكرانيا وحشد واشنطن والناتو لجهودهما في استنزاف القدرات الروسية ضمن هذا المستنقع، لتحقيق مكاسب جيو إستراتيجية مثل تقديم نفسها رئة اقتصادية لروسيا، ومحاولة مقايضتها بعدم فرض العقوبات الاقتصادية عليها على غرار الدول الغربية، مقابل السماح لتركيا بتوسيع نفوذها في الاستيلاء على أراضي سورية لإقامة ما يسمى «المنطقة الآمنة»، بذريعة محاربة الإرهاب الكردي وتوطين اللاجئين السوريين، وهو ما يوحي بانتهاج تركيا لسياسة «العصا والجزرة» مع روسيا، وخير الأمثلة على ذلك حينما أقدمت أنقرة على إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل في الوقت الذي بادرت به للعب دور الوساطة بين روسيا وأكرانيا، وهي اليوم تقايض موسكو بعدم فرض أي عقوبات عليها مقابل أن تقوم موسكو بتفويض تركيا لإدارة موارد اقتصادها خارجياً وغض الطرف عن عدوان جديد على سورية.
صحيح أن المثل الشعبي يقول: «إن أهل مكة أدرى بشعابها»، إلا أننا يمكن أن ندعي بأن كل ما قدمته روسيا لتركيا بما في ذلك تقديم المساندة الاستخباراتية لمنع نجاح الانقلاب العسكري في عام 2016، تحت أي ظرف كان سواء حاجة الضرورة أم غيرها في محاولة لسحب تركيا من الحضن الأطلسي، لم ينجح، لأن معظم الجروح والطعنات التي تعرضت وتتعرض لها روسيا كانت بسبب غدر أنياب النظام التركي، لذلك يمكن القول: إن روسيا لم تكن على صواب حين أتاحت لتركيا التقارب منها، والأخيرة تستفيد اليوم من توسع دائرة الأزمات واشتداد حدة الصراع الأميركي الروسي وتغذيه، لاقتناص ما تستطيع اقتناصه من مكاسب وفرص خبيثة وعدوانية وتوسيع نفوذها الجيو سياسي، ويبقى السؤال إلى متى سيبقى الصبر الإستراتيجي الروسي على هذا السلوك؟ وهل روسيا بوارد اتمام أي صفقة مع تركيا على حساب حلفائها؟