أعترف أنني، ككثيرين غيري، لم أستطع أن أعرف أيهما كان الأسبق في الوجود: الكلمة أم الصورة. أحياناً أميل لرأي حكماء الصين القدماء الذين عبروا عن انحيازهم للصورة إذ رأوا أن صورة واحدة تعادل عشرة آلاف كلمة. إلا أنني غالباً ما أرجح أن العلاقة بين الكلمة والصورة لا تقل تشابكاً عن العلاقة بين الزمان والمكان، فقد خَلص الفلاسفة إلى أن الزمان والمكان متقاطعان بوصفهما إطاراً للوجود وشرطاً مسبقاً للمعرفة به، وأن الحركة المكانية والسرعة الزمانية هما بالتالي وجهان لعملة واحدة واسمان لمسمى واحد على حد قول الفيلسوف السويسري جون بياجيه، (1896- 1980). فالزمان برأيه مكان متحرك والمكان هو زمان ثابت إذ لا يمكن التفكير بمكان فارغ ولا بزمن ليست فيه أية أحداث.
أدقق بطبيعة العلاقة بين الكلمة والصورة فأحسب أنهما، رغم تباينهما الظاهري، وجهان لعملة واحدة. صحيح أن الكلمة والصورة من حيث الآلية والشكل لهما جوهران متباينان، لكنهما يتكاملان كإطار للوجود وكشرط مسبق للمعرفة به كما يتكامل الزمان مع المكان.
تتميز الكلمة على الصورة بأنها تُبْقِي بابها موارباً، بحيث تعطي المتلقي الفرصة لأن يكون شريكاً في إعادة بناء النص الأدبي من خلال دمج ذكرياته ومعارفه وخبراته فيه، أثناء تلقيه، أما الصورة فهي تشكل كياناً مغلقاً على ذاته لا يستطيع المشاهد مهما بلغ تفاعله معه، أن يسهم في صياغته أو إعادة تشكيل مكوناته بأي شكل من الأشكال.
أحسب أن الشعر في كثير من أبهى حالاته ما هو إلا صور مرسومة بالكلمات وقد حاول كل من الشاعر أدونيس والمصور المهندس الفنان فادي مصري زادة في كتابهما المشترك «سورية وسادة واحدة للسماء والأرض» الصادر عن دار الساقي بلندن، أن يحلقا معاً بكيان سحري قوامه الصور والكلمات. يقع الكتاب في 208 صفحات من القطع الكبير، تضم مئة وصورتين، قام الفنان المهندس فادي نصري زادة بالتقاطها في مختلف المناطق السورية قبل اندلاع الحرب، وقام أدونيس بكتابة منمنمة لكل واحدة منها.
يقول أدونيس في المقدمة: «لسورية في الفن دور يعلّمنا». ويرنو إلى الكتاب كمحاولة لقراءة «بعض الجوانب المضيئة في سورية، إنساناً ومادّةً وإبداعاً…»
يقرأ أدونيس صور فادي مصري زادة بلغته الفريدة فيتبدى له الجامع الأموي «فارساً ينام في سرير جراحه». ويرى إلى أرواد التي «شاركت في التأسيس لتاريخ البحر»، وهو في كل كلمة يكتبها يمارس الطيران الشعري الحر داخل الصورة وحولها، فصورة بيت طين هنا تحفزه لأن يقول: «يمكن أن يعرف الإنسان جميع الطرق إلا واحدة: تلك التي تقوده إلى نفسه»، وصورة بيت طين آخر هناك تغريه بقول آخر: «القبة بيت للعتمة في الداخل، وهي في الخارج مكان لتزلج الضوء. ترفق أيها الضوء بخشب الباب والنافذة، ترفق خصوصاً بالعتبة. »
أحياناً تحلق الكلمات بعيداً عن الصورة لتعيد تشكيلها كصورة أخرى في داخلنا، وأحياناً تبدو موازية للصورة تبتعد معها وعنها من المحسوس إلى المجرد ومن النسبي إلى المطلق: «لا يكون الخيال واقعياً إلا حيث يكون الواقع أبعد وأوسع مما يقول الخيال. »
كعادة الرجال الحكماء يكتب أدونيس كلمة ويقصد ثلاثة وربما أكثر. لكنه يقول قلبه كاملاً عندما يخاطب سورية قائلاً: «سلاماً أيّتها الأرض ـ الأمّ».