مطار دمشق الدولي خارِج الخدمة بعد استهدافٍ إسرائيلي أصاب المدرج وغرفة الأجهزة، ربما لا يعرف المواطن السوري آخرَ تاريخٍ خرجَ فيهِ مطار دمشق عن الخدمة لذات السبب وهو ما يقودنا إلى نتيجةٍ منطقية بأنَّ هذا الاستهداف يبدو تطوراً نوعياً في المواجهة بين الكيان الصهيوني ودولة المواجهة الوحيدة في المنطقة، بل إنَّ أيَّ محاولةٍ للتقليلِ من خطورةِ هذا التطور هو جزء من النومِ في العسل، وبذات الوقت فإنَّ أيَّ تكرارٍ لمسوغَّاتٍ عفا عنها الزمن هي للأسف دوران في حلقةٍ مغلقة لا يبدو بأننا سننتهي منها طالما أننا ما زلنا نهرب من مواجهةِ الحقيقة والتي يمكننا فهمها مع هذا العدوان عبرَ الاستنتاجات التالية:
مبدئياًّ لو كنا أكثرَ دقةٍ في استخدامِ التعابير لقلنا بأن المطار جرى استهدافه في الكثير من المرات، لكنها المرة الأولى التي تهرب فيها الصواريخ المعادية من دفاعاتنا الجوية البطلة لتحقق هذا الخرق، هذا لا يعني ضعفاً في الدفاعات الجوية بقدرِ ما يعنيه لجوء الكيان الصهيوني لاستخدام الجيل الأحدث من الصواريخ، عندها يصبح السؤال: ما الذي يدفع الكيان لهكذا مُغامرة لو كانَ فعلياً حقَّق أهدافهُ سابقاً؟ في إطارٍ آخر هل تألّمَ العدو في مكانٍ ما؟ ما دفعه لهذهِ النقلة النوعية، للأسف هذا السؤال تصعب الإجابة عنه تحديداً أن النهج الذي تتبعه القيادة السورية في حربها الاستخباراتية الخفية مع الكيان الصهيوني هو نهج العمل بصمت بعيداً عن استعراض الآخرين الذي قد يربط حتى حدوث حادث سير في الكيان الصهيوني بالعمليات الاستخباراتية، أحببنا هذا الخيار أم لم نحبه في القيادة السورية إلا أن علينا احترامه لكونِ مساحة الرؤية لديها أدق منا كمتابعين.
في سياقٍ متصل هناك من سيربط الحدث بالكذبةِ المُكررة عن وصولِ سلاحٍ إلى «حزب الله» اللبناني، لكنهم يعرفون قبل غيرهم بأن إخراج المطار عن الخدمة لن يحل القضية، تحديداً أن هناك مطارات بديلة لهذهِ العملية كان يجب استهدافها بذات الوقت، لكن هناك سبباً قد يطول الوقت حتى يُكشف عنه اللثام، مرتبطاً تحديداً بالعلاقة بين الجانب الروسي والكيان الصهيوني وهو يستند إلى معلوماتٍ عن تحذيراتٍ روسية للجانب الإسرائيلي مفادها بأن كل ما يُشاع عن دور روسي بمنع السوريين من استخدام بطاريات الصواريخ «اس 300» هو محض خيال، وهو تدخل في إطار المهاترات الإعلامية لا أكثر لمن يريد التصويب حول الدور الروسي، فقرار استخدامها من عدمهِ مرتبط بالقيادة السورية حصراً، ما يعني بأن التكتيك السوري قائم على فكرةِ الصبر المستند على حتميةِ المواجهة بالمضادات السورية التي تم تحديثها بجهود سورية صرفة، أما لماذا يتبع السوريين هذا التكتيك فلعلمهم التام بأن كل ما يجري هو أشبه بالجوجلة ستنتهي بأحدِ اتجاهين:
الاتجاه الأول: الحرب الشاملة
لا تبدو هذه الفرضية بعيدة وهو ما يدفع بالسوريين نحو الكثير من الصبر قبل اتخاذ القرار بنوعية الهجوم أو الدفاع على مبدأ إخفاء قواعد القوة لديك، بذات السياق لا يبدو بأن الوضع الإقليمي بعيد كل البعد عن هكذا نتيجة، بل إنَّ القراءة البسيطة لتسارع تطور العلاقة بين النظام التركي والإسرائيلي إلى الحد الذي تعدَّت فيهِ مرحلة التنسيق على كافة الصعد قد تشي بما هو أبعد، فكيف ذلك؟
منذُ أشهر روّج النظام التركي للكثير من الأخبار التي تتحدث عن عملية مشتركة مع الجيش العربي السوري ضد ارهابيي حزب العمال الكردستاني، يومها قلنا بأن أردوغان يهدف من هذه الأكاذيب إلى ضرب التقارب بين ميليشيا «قسد» ودمشق فالقيادة السورية لا يمكن لها أن تضع يدها بيد قاتل ومجرم ضد السوريين الأكراد، هذا التحضير الإعلامي كانت له أسبابه، إذ يرى التركي بأن نجاحه في معركةِ إدلب السابقة بتحييد إيران وحزب الله عن المواجهة معه رغمَ دخولهِ مباشرةٍ في عمليةِ دعم الإرهابيين سبب مشجع لتكرار العملية، لعل هذا الأمر ما يدفع الروسي للاستماتة نحو الكثير من الحلحلة في ملف العلاقة بين القيادة السورية وميليشيا «قسد»، بل إن كلام الرئيس بشار الأسد الأخير لقناة «روسيا اليوم» كان يصب في هذا الاتجاه، ترك اليد ممدودة باتجاه «قسد» حتى أبعد حد، بل إن كلامه كان يمثل كل مواطن سوري يثق بأن أهلنا السوريين الكرد ليسوا هامشاً على تاريخ الوطن، هم قومية نفتخر ونعتز بوجودها وكل ما لديهم من مطالب خلا التقسيم، هي مطالب قابلة للنقاش، وإن كان معظمها أساساً قابلاً للتنفيذ دون نقاش.
على الجانب الإسرائيلي لا تبدو القضية بهذا الهدوء، هم لا يثقون أساساً بتلون النظام التركي الذي قد يبيعهم مع أول رصاصة، بالإضافةِ إلى ذلك لا تبدو حرباً شاملة في هذا التوقيت هي مجرد نزهة، ولو كانت كذلك لما وفَّرَ العدو يوماً واحداً قبل شنِّها ولم يكتفِ بالغارات الاستعراضية، حتى في الدول العربية التي تبدو رسمياً خارج الصراع فإنها على المستوى الشعبي ليست كذلك، هذه الفكرة لا يجري التسليط عليها جيداً والنيل من الشعوب العربية لأي سبب، بل قد لا نبالغ إن قلنا بأنها ولو أبدت رسمياً أمراً ما فإن ساعةَ المواجهة ستبدل الكثير من المعطيات، هو جزء لا يتجزأ من معركةِ إهانة هذه الأمة أياً كان مطلقوها وأياً كانت مسوغاتهم فهل تكون الحرب الشاملة هي الحل؟ لو كان لي أن أُعطي رأيي الشخصي لقلت حتى من يهددون بالحروب سيتراجعون عنها عندما تدق ساعةَ الحسم.
ثانياً: ماذا عن السلام؟
تقول الحكمة، تمنى الأفضل واستعد للأسوأ، قد نضيف إليها ببساطة، لا تنتظر السلم إن لم تكن مستعدَّاً للحرب، فالسلام لا يأتي بالتمني ولا يُعطى لمنهزم، وفي حديثهِ الأخير لقناة «روسيا اليوم» بدت المقاربة التي أطلقها الرئيس الأسد عن التمييز بين التطبيع والسلام ضرورية، تحديداً لأن الكلام لا يبدو قد خرجَ عن الثوابت السورية لكن الإضافة الأهم كانت الحديث عن اتفاقيات أوسلو، هذه الاتفاقيات عملياً كانت الطعنة الأصعب في تاريخ هذا الصراع لأنها أدخلت أصحاب القضية الأساسيين في متاهة لم يخرجوا منها حتى الآن، ولجمت كل من لا يزال يرى بهذهِ القضية جوهر الوجود لأن ما من حقه التدخل إن كان أصحاب القضية مقتنعين، أما على الجانب السوري فإن السلام شيء والتطبيع شيء آخر، ربما هذا الكلام قد لا يعجب حتى البعض من أصدقاء سورية، لكنهُ بذات السياق دليل آخر على أن سورية تقبل النصائح لكنها ليست ملزمة بها، تحديداً عندما يكون من يقدِّم هذهِ النصائح يكرر ذات الفعل لكن بسياقٍ مختلف، حتى في إطارِ عودة العلاقات السورية العربية التي كنا وما نزال نراها ضرورية لأن ما من بديل لسورية عن عمقها العربي، فإنَّ سورية وإن كانت ترفض ربط علاقاتها مع إيران بعودةِ هذه العلاقات، فإن هناك جانباً موازياً لهذا الكلام لا يجب تجاهله، سورية كذلك ترفض تدخل أي طرف في علاقاتها العربية لأن عمقها العربي خط أحمر، من هنا يصبح السؤال المنطقي: هل كل هذا الانفتاح الذي نعيشه قد يكون مقدمة لسلامٍ ما في المنطقة؟
في السياسة عادةً ما تحاول تبرئة موقفك السياسي قبل الانخراط في العمل العسكري، كان واضحاً بأن هذهِ الرسالة تبدو رفع عبء عن الروس، فالروس سعوا جاهدين خلال فتراتٍ محددة إلى إيجاد اتفاقٍ قد يكون وسطياً بين إسرائيل وسورية يضمن إعادة الحقوق لأصحابها، لكن لا يبدو بأن تفكير الكيان الصهيوني يختلف عن المتأسلم الذي ما زال مقتنعاً بأن «أيام النظام معدودة» فماذا ينتظرنا:
لا تنظروا لاستهداف المطار على أنه حدث عابر، قلنا وما نزال نكرر بأن سورية لوحدها هي آخر دولة مواجهة مع الكيان الصهيوني، وما سواها مجرد فقاعات صوتية، على هذا الأساس فإن الحسم يكون معها، إن كانت حرباً شاملة قد تبدو أقرب من أي وقت مضى، لكنها ولسوء حظ الكيان الصهيوني هذه المرة ستكون حرباً بمزاجٍ شعبي عربي قد لا يرحم، وإن كانت سلماً فإن مطالب دمشق واضحة وصريحة، قالها لكم الرئيس الأسد مراراً وتكراراً: لا سلام بدونِ عودة الحقوق!
متفائلٌ حد الثمالة من يعتقد بأن الخيار الثالث المتمثل ببقاء الوضع على ما هو عليه سيصمد كثيراً.