د. وحيدة العظمة والعمل الإسعافي الوطني … ما بين عامي 1949 و2000 كانت الطبيبة الناجحة وأول طبيبةفي الجيش العربي السوري
| أنس تللو
إن في الفتاة اليافعة من الخصائص والمزايا ما يكفي لتربية أجيال وللنهوض بالأمم، فبها تحيا النفوس وتتهذب الأخلاق وترتقي العادات؛ إذ إنها ستكون في المستقبل أمَّاً يرتكز عليها تعليم الأبناء وتهذيبهم، فإذا ما أخطأتَ في تربيتها فإنها ستجرُّ على العالم ناشئةً تكون عالة على المجتمع.
وإن خير مثال على ذلك هو تلك المرأة الفريدة (وحيدة العظمة).
تنتمي وحيدة العظمة لأسرتين من أعرق الأسر الدمشقية؛ (العظمة) أسرةٌ عُرفت بالمحافظة وبـالعلم والتضحيات والبطولات، فأبوها كان ضابطاً في الدولة العثمانية، وقد تولى عدد كبير من أفراد أسرتها مناصب كبيرة في تلك الدولة.
والثانية أسرة أمها (المارديني) وقد عُرف آل المارديني بالميل إلى الانفتاح وحب الثقافة والعلم؛ حتى إن جدتها لأمها كانت قد شيدت من مالها الخاص مبنى في ساحة المرجة جعلته مسرحاً، وقدم في أربعينيات القرن العشرين عروضاً مسرحية مهمة، ثم تحول إلى صالة عرض سينمائية اسمها (سينما غازي).
إلا أن العامل الأقوى في تنشئة وحيدة لتكون ما كانت عليه هو طموحها المتوثب… فقد كانت تحب الأدب حباً شديداً، وتطمح أن تكون كاتبة أو عالمة نظراً لحبها للأدب، وكانت متفوقة بالعلوم إلا أن أملها خبا عند بوابة الجامعة السورية التي كانت تقتصر آنذاك على مدرستي الطب والحقوق، فاضطرت وحيدة العظمة إلى الالتحاق بمدرسة المعلمات والعمل في سلك التربية والتعليم… ثم انتسبت إلى مدرسة الطب وتابعت دراستها فيها حيث استغرقت دراسة الطب سبع سنوات، تخرجت في كلية الطب في دمشق عام 1949 على أيدي أساتذة كبار من أمثال مرشد خاطر ونظمي القباني وحمدي الخياط وشوكت الشطي وحسني سبح… فغدت تحمل شهادة الدكتوراه في الطب.
حين نشبت الحرب العربية مع كيان الاحتلال الصهيوني عام 1948، كانت الدكتورة وحيدة العظمة تتردد دوماً على مستشفى المزة العسكري لمعالجة الجرحى الوافدين إليه، وقد سمعَت إعلاناً صادراً عن قيادة الجيش العربي عن مسابقة لقبول أطباء عسكريين؛ فتقدمت للمسابقة وعُينَت بوظيفة طبيبة برتبة ملازم أول في الجيش العربي السوري لتكون في عام 1950 الفتاة الثانية التي تم تعيينها ضابطاً في الجيش العربي السوري، سبقتها إلى ذلك المناضلة نازك العابد.
ثم… وبعد سنة من تعيينها ضابطاً؛ ونظراً لتميزها والتزامها ودأبها أوُفدت من قيادة الجيش إلى فرنسا للتخصص في طب الأطفال.
في فرنسا لم تكن وحيدة العظمة طبيبة عادية، لقد اغتنمت كل ما تعلمته هناك ونقلته معها إلى بلادها لتستفيد منه وتفيد الآخرين، فتشبعت بمعاني الديمقراطية العلمية الصحيحة، وتابعت بشغف دروس السريريات في مشافي الأطفال الجامعية والعسكرية مما صقل شخصيتها الاجتماعية والطبية بعلم وأدب كبير.
عادت الدكتورة وحيدة العظمة إلى دمشق بعد أن حصلت على شهادتي اختصاص من فرنسا واحدة في طب الأطفال من جامعة باريس، والثانية شهادة اختصاص في طب الأطفال الاجتماعي من المركز الدولي للطفولة في باريس، عادت لتخدم بلادها؛ فعملت مدة ثلاثين عاماً بأقصى درجة من التفاني في العمل وأشد رغبة في الإخلاص والإبداع… عادت لتعمل في مستوصفات وزارة الدفاع السورية رئيسة أطباء وطبيبة أطفال، ويذكرها فيما بعد مئات الألوف من الأطفال الذين عالجت أجسادهم بصبر وروية وتعرفت على مشاكلهم وساعدتهم في حلها بحكمة وأناة، فكنُّوا لها الكثير الكثير من الحب والمودة.
هذا ما كانت عليه تلك الإنسانة العظيمة، فضلاً عن أمور عديدة أخرى منها:
1- أسهمت في تأسيس جمعية أطباء الأطفال السورية، وشغلت منصب أمانة السر فيها لعدد من الدورات.
2- كانت عضواً في هيئة تحرير المجلة الطبية السورية التي تصدر عن نقابة الأطباء السوريين لأكثر من خمسة وعشرين عاماً.
3- شاركت في تحرير مجلة الطبيب الصادرة في باريس باللغة العربية لخمس سنوات.
4- أسهمت بتأسيس جمعية تنظيم الأسرة عام 1974، وكانت عضواً فيها لمدة تقارب خمسة وعشرين عاماً.
5- تم انتخابها عضواً في اللجنة التنفيذية لإقليم العالم العربي في الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة.
أما عن حياتها الاجتماعية فتزوجت الدكتورة وحيدة في عام 1953 من أحد زملائها الأطباء، وسافرت معه إلى المملكة العربية السعودية وبقيت هناك تعمل طبيبة لمدة عام ونصف العام حتى مرض زوجها فجأة وتوفي عام 1956.
عادت الدكتورة وحيدة العظمة إلى دمشق مرة أخرى تحمل في أحشائها ابنها الوحيد الذي كبر فيما بعد وغدا طبيباً لامعاً يعمل في الولايات المتحدة الأميركية.
في عام 2000 تقدمت الدكتورة العظمة بطلب إحالتها على التقاعد من فرع دمشق في نقابة الأطباء السورية، وأغلقت عيادتها الخاصة بعد أن عالجت فيها مئات الألوف من الأطفال.
كُرِّمت الدكتورة وحيدة العظمة من السيدة الأولى في عام /2003/ ضمن من كرموا لتفانيهم في خدمة الوطن والأسرة.
رحم اللـه الدكتورة وحيدة العظمة… كانت من خيرة النساء النافعات للمجتمع والأمة.