من دفتر الوطن

مشاغبات الولدنة

| عصام داري

أشعر بأنني مقيد بأصفاد غير مرئية، وهل من الضروري أن تكون مرئية حتى نتأكد بأننا مقيدون ومسجونون بين خط أحمر وآخر أكثر احمراراً منه؟

هل من الضروري أن نرى الألغام المزروعة في دروبنا رؤية العين حتى نقول إننا نسير في حقول ألغام لا نهاية لها، وإن أي خطوة غير محسوبة قد تنسفنا من جذورنا وتترك فينا عاهات مستديمة في الجسد والعقل معاً؟

تحاصرنا القوانين الوضعية من كل جانب، أي القوانين التي سنها شخص مثلي ومثلك، لكنه يمتلك قلم رصاص وبندقية سريعة الطلقات، ومقصاً حاداً لجز اللسن من«لغاليغها» كما تذكرون في مسرحية «مدرسة المشاغبين».

هل نحن من جيل المشاغبين، وما الذي جعلنا نشاغب فنتعب ونتعب غيرنا؟

كنت طالباً مشاغباً منذ المرحلة الإعدادية، وكان نوعاً من الطيش و«الولدنة» وربما في سبيل الظهور بمظهر الشجاع والمختلف عن غيري، لكن المشاغبة جعلتني أتراجع في ترتيب النجاح من الأول على مدرستي إلى الثاني قبل الأخير في صفي!.

اكتشفت أن مشاغباتي كانت «سلاحاً ذا حدين» كما يقولون، لكن الحد الذي جرحني وأدماني كان الأكثر إيلاماً وتأثيراً.

أدركت خطأ مشاغباتي، ولكن بعد فوات الأوان، فهل توقفت في حياتي كلها عن المشاغبة والشغب؟ وهل «مشاغبات الولدنة» تشبه مشاغبات رجل يخطو بثبات نحو السنة الخامسة والسبعين من العمر؟ والأهم: ماذا ستكون نتائج مشاغباتي؟ وهل أخسر مجدداً كما خسرت في المرحلة الإعدادية؟

في رواية «الأبله» للكاتب الروسي الكبير دوستويفسكي يصعد المحكوم بالإعدام إلى العربة التي ستقوده إلى ساحة تنفيذ حكم الإعدام، حشود على جانبي الطريق، يشعر بالفخر والسعادة، يقول في نفسه: كل هؤلاء جاؤوا لمشاهدتي أنا! ولكن بعد أقل من ثانية يسأل نفسه بغضب وحقد وحنق: لماذا سأموت أنا وحدي وكل هذه الحشود ستتابع حياتها بشكل عادي بين فرح وحزن وكآبة؟

ترى، هل يستحق ما فعله المحكوم بالإعدام، أياً كانت جريمته، هذا الثمن الباهظ؟ وهل غير عمله أو جريمته العالم أو الواقع الذي يحتج عليه؟ ولماذا يموت نيابة عن الآخرين؟ وهل سيشكرونه على موته هذا؟

طبعاً المسألة لا تصل إلى حد الإعدام، فالكاتب أو الصحفي ينقل أفكار وتطلعات الناس، فلماذا يعاقب هو وحده وفق قوانين قد تبدو جائرة وعادلة بالنسبة لآخرين ما دام الموضوع يهم الشريحة الأوسع من المجتمع؟

هل يغامر الكاتب عندما يشاغب وينتقد حالة شاذة في المجتمع أو قرارات حكومية «غير شعبية»؟

أميل في أغلب الأحيان إلى الكتابة الساخرة، لكن حتى هذا النوع من الكتابة صار مهدداً بالانقراض، وبمقص الرقيب، وصارت الحروف والكلمات توضع في الميزان، أم أخبركم أنهم أوجدوا ميزاناً للكلام بين المسموح والممنوع، وعليك أن تشتري ميزانك من الحكومة قبل أن تكتب كلمة واحدة فتقع في المحظور.

اليوم كتبت من دون ميزان، لأن الطابور على شراء الموازين «جمع ميزان» وقد أشتري ميزاناً في المستقبل، ربما لا يعجبني فأكسره وأعود إلى مشاغباتي نيابة عن الآخرين الذين سينسون ما كتبت ذات يوم، وأدفع الثمن وحدي، وأعود إلى المرحلة الإعدادية لأحتل المركز الثاني قبل الأخير في مدرسة الحياة التي يبدو أننا لم نتعلم منها شيئاً رغم تراكم السنين والأعوام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن