عالمٌ مقسمٌ يتجه إلى تعزيز الأمن القومي للمجتمعات وفي كل الاتجاهات، وبشكل خاص لدى القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية المهيمنة على العالم، هذا يعني بعد مئة عام من قيامته واتفاقه على تنظيمه عبر اتفاقيات سايكس بيكو وسيفر ولوزان ويالطا والعودة لاقتسامه من جديد في هذا الزمن المعيش، ما شجع الدول الأقل شأناً لانتهاج المنهج ذاته في جنوب آسيا وإفريقيا، وبشكل خاص في الشرق الأوسط الذي انتشرت فيه قوى إقليمية، أخذت تتحرك تحت شعارات متطلبات أمنها القومي، وهذا أعتبره أهم سبب لإنهاء أي فكرة للعودة إلى إظهار تضامن الوجود البشري، كعائلة مشتركة رغم احتياجه لبعضه، وللعمل السريع من أجل معالجة أزماته التي تتراكم مشكلةً الرعب للجميع، وغدا حديث البشرية المتداول أنه لا يمكن للإنسان الحياة في زمن الكوارث الطبيعية والاصطناعية، فالمناخ والغذاء والأمراض البيولوجية تشير إلى ما يعانيه الأحياء من مختلف الأجناس نتاج عدم عدالة الحياة، فهل تتقبل الناس ذلك.
تتساقط البشرية من الأعلى إلى الأسفل بشكل مريع، وفرضية الإنقاذ بعيدة، ولم تعد واقعية، إلا عبر المساعدات الطارئة. دققوا في المشهد العالمي الذي نحن جزء منه، والتهديد الحاصل للمكونات الحية أكثر من واضح، ولا لبس فيه، وأي تأخير في العمل الإقليمي والعالمي يعني إضاعة الفرص لتأمين حاضر أو مستقبل صالح ومستدام للجميع، والعالم الذي يحتاج بشكل عاجل إلى التعاون والعمل لمعالجة أزماته نراه مرة ثانية ينقسم إلى كتل سياسية وعسكرية واقتصادية، تنذر بعضها بشن الحروب، وما ينفق للاستعداد للحروب وعلى الجيوش لو جُيّر جزءٌ منه لكانت البشرية بألف خير.
عالم الشمال يبني الثروات على حساب عالم الجنوب، وكامل عوالمه بشكل خاص يراكم الثروات على حساب الناس كافة، حيث يترأف به، ويطلق عليه العالم الثالث أو النامي، هذا العالم الذي يعيش تحت مظلة الخطر والحظر العلمي الدائم، رغم ما يمتلكه من ثروات هائلة تمثل لعالم الشمال حياته ورفاهيته، رغم أن منظومة دول العالم الثالث أكثر شباباً وحيويةً، لكنها لم تقدر على اتباع أساليب العالم الأول في التقدم، ولم تنجز إستراتيجيات واقعية تأخذ به إلى الأمام، رغم أنها قادرة على فعل ذلك، وإن فعلت تكن على طفرات غير مستدامة، سرعان ما تهوي إلى تقوقعها.
نحن نؤمن بعدم مثالية العالم، لأنه قام من اللحظة الأولى على التناقض الذي تحول إلى طبيعي، ولكن أن يغدو كارثياً، فهنا تكمن المأساة التي تتعزز بشكل دائم كلما تقاطعت المصالح، وهنا لا بد من أن نتجه إلى الواقعية، التي تؤكد أن القوى العظمى السياسية والاقتصادية تسعى دائماً لحصد النتائج التي تخطط لها إستراتيجياً وتكتيكياً، ومن مصالحها أن تزيد في تقسيم العالم وصراعاته وحروبه، لأن بها وحدها تزيد فرص بيع منتجاتها، بل أكثر من ذلك فرضها عليه ومنعه من الذهاب بعيداً في عمليات التنمية، هذه التي لا يمكن لها أن تتحقق إلا في ظلال الاستقرار والأمن والسلام، فلا تنمية مع الحروب والنزاعات المسلحة والإقصاءات الدينية والمذهبية والإيديولوجية، ولا تنمية في ظل غياب الحقوق وانتهاك الحريات أو تقييدها، ولا تنمية مع الفقر الفوضوي والعشوائي الذي تتزايد قواه البشرية لتقتل أي تقدم، فالذي يخطّط لهذا ولزيادة الجهل في عالم الجنوب مؤكدٌ هو عالم الشمال، ومعه أدواته اللاوطنية.
هل تستفيد اليوم دول عالم الجنوب من الفوضى الحادثة في عالم الشمال وصراعاتها على ما يخصها من الأمن القومي، وتتجه لبناء حضورها ضمن مخاض ولادة نظام عالمي جديد يحدث توازناً معقولاً بين عالم الشمال والجنوب؟ أم إن تلك الفوضى ستعزز سيطرة الأول بعد إنهاء نزاعاته، ليتفرغ أكثر لتعزيز سيطرته وزيادة نهبه لثروات دول الجنوب؟
أجزم أنها فرصة نادرة لكل المجتمعات حتى أوروبا، ولكن ما يخصنا نحن في الأمة العربية، هل نعود لتشكيل ولو تضامناً عربياً يظهرنا كمجتمع له قدراته السياسية والاقتصادية، وله كلمته الجامعة وقراره في الحضور، وأن له أمنه القومي والإقليمي أسوة بما يطرحه المحيط القريب منه، لأن الحادث بين القوى الكبرى يظهر سوء نياتهم، واغتنام استقلال القرار السياسي والاقتصادي للدول الآمنة والباحثة عن التطور ليس عيباً في عالم لا مثالية فيه.