تشهد العملية السياسية في العراق، وبعد ثمانية أشهر من إجراء الانتخابات النيابية المبكرة في العاشر من تشرين الأول 2021، انسداداً وخلافات حادة بين القوى النيابية الفائزة، حيث أخفق المجلس النيابي ثلاث مرات في اختيار رئيس جديد للجمهورية، ومن ثم تكليف رئيس للحكومة المقبلة، متخطياً المهل التي ينص عليها الدستور، وسط تمسك التيار الصدري بحكومة «الأغلبية السياسية»، والإطار التنسيقي بالحكومة «التوافقية». ولم تسفر نحو 15 مبادرة لحل عقدة انتخاب رئيس للجمهورية، لتكليف رئيس بتشكيل حكومة جديدة، عن أي انفراجة بالمشهد السياسي، حيث ظل اللا اتفاق والانسداد والعناد، هي السائدة بين الكتل النيابية الفائزة حتى تاريخه، مترافقة مع شلل أصاب مؤسسات الدولة العراقية، لمحدودية صلاحيات حكومة لتصريف الأعمال.
مقتدى الصدر، وفي خطاب متلفز في الـ9 من حزيران 2022، دعا «نواب الكتلة الصدرية بكتابة استقالاتهم من مجلس النواب استعداداً لتقديمها إلى رئاسة البرلمان بعد الإيعاز لهم في قابل الأيام».
وفي الـ12 من حزيران الجاري، طلب الصدر في بيان له من «رئيس الكتلة الصدرية حسن العذاري أن يقدم استقالات نواب الكتلة إلى رئيس مجلس النواب»، معتبراً هذه الخطوة «تضحية مني من أجل الوطن والشعب لتخليصهم من المصير المجهول».
مقتدى الصدر له تاريخ حافل في المقاطعات والتراجع عنها في اللحظات الحاسمة، لإعادة التموضع داخل توازنات القوى السياسية العراقية، بما في ذلك الاعتكاف عن لقاء جمهوره غضباً وعقاباً له!
ففي الـ15 من تموز 2021، وفي موقفٍ مفاجئ، أعلن مقتدى الصدر، أنه لن يشارك في الانتخابات النيابية المبكرة، معلناً انسحاب مرشحيه منها، لما في العراق «من بلاء وفساد وظلم، لم يعد بالمقدور محوه أو تقليله»، مع أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات كانت قد أغلقت باب الانسحاب قبلاً في الـ20 من حزيران 2021، مربكاً الساحة السياسية العراقية، حيث كان من الصعب أن تجرى الانتخابات في موعدها دون مشاركة التيار الصدري، إلا أنه عدل عن قرار المقاطعة في خطاب متلفز في الـ27 من آب 2021، بعد تسلمه «ورقة إصلاحية» من «مؤتمر الحوار الوطني» المنعقد في بغداد خلال الفترة 25-26 آب 2021 الذي شارك فيه رجال دين وشيوخ عشائر وشخصيات اجتماعية أكاديمية وثقافية من مختلف المناطق والمحافظات العراقية، بغياب الأحزاب والقوى السياسية التقليدية، دعته إلى إنهاء مقاطعته.
مقتدى الصدر، وفي الـ31 من آذار 2022، أعلن الاعتكاف السياسي لمدة 40 يوماً آمراً نوابه بـ«الصمت الإعلامي» خلال هذه الفترة، مخاطباً قوى الإطار التنسيقي، بالقول: إن «ما تسمونه بالانسداد السياسي أهون من التوافق معكم وأفضل من اقتسام الكعكعة معكم»، مدخلاً العملية السياسية والعراق في أزمة دستورية مفتوحة.
وفي الـ15 من أيار 2022، أعلن الصدر بشكل مفاجئ «التحول إلى المعارضة الوطنية لمدة لا تقل عن ثلاثين يوماً»، لـ«ازدياد التكالب عليَّ من الداخل والخارج وعلى فكرة حكومة أغلبية وطنية»، بعد ذلك قدم نوابه استقالاتهم من المجلس النيابي التي وافق رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي عليها في ذات اليوم الذي قدمت بها!
استقالات التيار الصدري لن تؤدي إلى حل المجلس النيابي الحالي، فالقانون الانتخابي العراقي نص، على أنّه عند استقالة نائب، يحل محله المرشح الخاسر الحاصل على أعلى الأصوات في دائرته، ما يعني أن مقاعد التيار الصدري الـ73 سيذهب الجزء الأكبر منها إلى الإطار التنسيقي، والآخر ستأخذه قوى شيعية من خارج الإطار، وبعض المستقلين.
وفي حال المضي بقرار استقالة نواب التيار الصدري، فإن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ستعمل على اختيار النواب البدلاء عنهم، ما سيغيّر من خريطة توزع النواب داخل المجلس النيابي.
الأزمات السياسية التي تعصف بالعراق، باتت ظاهرة ملازمة لاستحقاقات الرئاسات الثلاث وتشكيل الحكومة عقب كل دورة انتخابية نيابية، إلا أن الأزمة الحالية، هي الأخطر والأكثر تشنجاً وتطرفاً في الاستعداء بين الأطراف السياسية.
إن سياسة «الحرَد» التي تَميّز بها مقتدى الصدر، المعروف بعناده، الذي يرى أن الانسداد السياسي «مفتعل»، يُبقي كل الخيارات مفتوحة على كل الاحتمالات، فحكومة بلا صدريين، ستكون بالغة الهشاشة، تتهددها قدرة التيار الصدري على تحريك الشارع لإسقاطها في أي وقت، كما أنه ليس من المستبعد أن يقتحم هذا الجمهور المجلس النيابي لإجبار نوابه على الاستقالة.
المشهد السياسي ما زال معقداً وخطراً، فانسحاب نواب التيار الصدري من المجلس النيابي، لا يعني الانسحاب من الشارع، وما من شك أن استقالة نواب التيار الصدري من المجلس النيابي التي ينظر إليها بعين الريبة، ستُحدث فراغاً مهماً في العملية السياسية، على الرغم من أنها ستكون مخرجاً مناسباً من حالة الانسداد السياسي التي يمر بها العراق، وأتوقع ذلك.