ثقافة وفن

سهيل الأحدب رائد الفن التشكيلي في حماة وأول دارس أكاديمي فيها … عارض أهله توجهه للفن فقام بتأمين احتياجاته بنفسه … خصّ فنه بالبيئة المحيطة ليكون ما يقدمه مقبولاً مجتمعياً

| سعد القاسم

يُعدّ سهيل الأحدب (1915- 1969) رائد الفن التشكيلي السوري في حماة، فهو أول أبنائها الذين أتموا دراسة فنية أكاديمية. وقد قام بدور مؤسس في إحياء النشاط الفني فيها، ويحمل اسمه اليوم مركز الفنون التشكيلية في المدينة، ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى. ومع ذلك فإن ما كتب عنه لا يتعدى مقالة واحدة نشرها الفنان الراحل موريس سنكري في عدد سنوي من مجلة (الحياة التشكيلية) عام 1990، وبضعة نصوص مأخوذة عنها.

البدايات

درس الأحدب في مدرسة التطبيقات، ونال عام 1926 الشهادة الابتدائية منها، ثم نال الشهادة الإعدادية من تجهيز حماة الأولى عام 1929 وصار أكثر استجابة لميوله الفنية وسط معارضة أسرته ومحيطه، وخاصة والده الحرفي الذي استمر في معارضة توجهاته حتى وقت متأخر، فقام عام 1945 بحرق كل أعماله ودراساته التي كان يخفيها، ولعل هذا أحد أسباب ندرة ما وصلنا من أعماله، التي يردها ابنه السيد عرفان (في صفحة التاريخ السوري) إلى اهتمام أبيه بالجانب التعليمي، الذي «كان على حساب عمله الفني.. بالإضافة إلى الحريق الذي أنشبه جدي في لوحاته».

معارضة الأهل والإصرار

حيث إن دعم أسرته له في دراسة الفن كان أمراً محالاً، فقد عمل على توفير نفقات دراسته بجهده الشخصي، فغادر عام 1931 إلى بيروت للعمل فيها، وهو لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وبعد أربع سنوات مضنية التحق بالأكاديمية الملكية بمدينة فلورنسا الإيطالية عام 1935، وكما جاء في الحلقة السابقة فقد زامل هناك هشام الناشف الذي تبعه في العام التالي. ولا يتوافر لنا ما يشير إلى مستوى تلك الزمالة، وخاصة أن اتجاهيهما الفنيين كانا متباينين بعد انتهاء الدراسة. في حين يتحدث موريس سنكري في مقالته المشار إليها عن لقاء حار مؤثر جمع بين سهيل الأحدب قبيل سفره إلى إيطاليا، وبين الفنان المعلم محمود جلال خيمت عليه روح الفن وكان ذروة اندفاع الأحدب وتحديه. كما يتحدث عن رجل من آل قنباز كان يرسل له إلى إيطاليا مبالغ متتالية لإعانته على الاستمرار.

يذكر السنكري في مقالته أن الأحدب نال درجة جيد جداً عن مشروع تخرج وصفه بـ«ملحمة رائعة عن نضال الشعب العربي في سورية ضد الاستعمار الفرنسي. وتبدو هذه المعلومة مقبولة وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الحراك الوطني السوري في تلك المرحلة، والعداء بين إيطاليا وفرنسا. لكن لوحة طبيعة صامتة وصلتني من السيد صفوان الأحدب ابن الفنان، تفتح باب الأسئلة. فقد كتب السيد صفوان معلقاً عليها أنها «أهم لوحاته حيث وضع هذا (التكوين) أمامه وتركه نحو ستة أشهر حتى تراكم الغبار، ثم رسمه وحاز بذلك شهادة التخرج».

التدريس والبيئة

إثر عودته إلى سورية عيّن مدرساً للفنون في التجهيز الأولى التي تخرج منها، ثم مدرّساً في معهد إعداد المدرّسين في حلب بين عامي 1941 و1947. وكرّس لوحاته لمواضيع من البيئة المحيطة، وعلى الأرجح أن هذا التوجه كان بحكم سعيه لتقبل المجتمع للفن التشكيلي الذي حاول إكسابه شرعيته المحلية من خلال التأكيد بأن «الفنون الجميلة قديمة في حماة قدم العاصي والنواعير والقلاع والروابي، طبيعتها الجميلة ألهمت أبناءها الفن شعراً وغناءً وموسيقا وتصويراً». كما كتب في بحث حمل عنوان الفنون الجميلة في حماة قديماً وحديثاً) نُشر في عدد خاص عن مدينة حماة من مجلة العمران عام 1969. يضيف مؤكداً: «كان من المألوف في مدينة حماة أن تزيّن جدران البيوت والفنادق والحمّامات والمقاهي وواجهات المحال التجارية بلوحات تمثل مناظر من مدينة أبي الفداء كالعاصي والجسور والنواعير والبساتين والمساجد. وقد مهرت في رسم هذه اللوحات أيدي فنانين طبعتهم الفطرة والبيئة بطابع العفوية والبساطة».

العودة إلى حماة والفن

عاد من حلب إلى حماة ودرّس في مدارسها، وكان بمنزلة الأب الروحي للحلقة الفنية التي قام بتأسيسها أربعة شباب، بدستور وبرامج وأهداف، كان من أهمها إقامة معرضهم الأول في بداية عطلة المدارس الصيفية في عام 1956 بمنزلة تحية للأستاذ سهيل الأحدب وقام بقصّ شريط افتتاحه وسط جمع من المثقفين. عن هذه المرحلة كتب -مشكوراً- الفنان المعلم نشأت الزعبي، خامس أعضاء الحلقة، في نصٍّ لم ينشر بعد:

«في صيف عام 1956 كنا نرسم نهاراً في بساتين حماة وحاراتها وسط إعجاب الأهالي وتشجيعهم. ثم في المساء نحمل لوحاتنا إلى مقرّنا في الثانوية لنعرضها على بعضنا، والأهم أن نعرف رأي أستاذنا سهيل وتوجيهاته. في العام التالي أقامت الحلقة الفنية معرضها الثاني في القاعة التي مُنحت كمقر لها في ثانوية ابن رشد، وافتتح محافظ حماة المعرض الذي ألقيتُ فيه كلمة ترحيب تضمنت إشادة بجهود الأستاذ سهيل واعترافاً بفضله.. في نهاية الصيف جمعتنا أمسية معه حول أوضاع الحلقة. وبعدها توطدت علاقتنا مع أستاذنا سهيل أباً وراعياً، حتى إنه كاد يهجرها تماماً تلك الجلسات الممتعة له مع أصدقائه في المقهى، ليتفرغ إلى إنتاجنا موجهاً ومشجعاً.. بعد قيام الوحدة بين سورية ومصر، افتُتح في حماة بعد دمشق وحلب مركزاً للفنون التشكيلية ليتم تعيين الأستاذ سهيل الأحدب مديراً له. وفي صيف عام 1960 حيث كان معظمنا نقضي عطلاتنا بين أهلنا في حماة، أراد الأستاذ سهيل أن يقيم معرضاً عن القضية الفلسطينية.. وافتتح المحافظ المعرض في نهاية ذلك الصيف وسط حشد من رجالات حماة ومثقفيها.. ومن الجدير بالذكر أنني رأيت في هذا الصيف لأول مرة عملاً لأستاذي سهيل، كان معلقاً في غرفة إدارة المركز، وقد كان لوجه من عامة الناس البسطاء بنظرات مازالت عالقة في ذاكرتي لما فيها من تعبير وبعد إنساني جاء بلمسات خاصة تنبض قوةً وحيوية.. في السنوات التي تلت، وحتى تخرجنا في الجامعة كنا نتردد صيفاً على المركز وسط ترحيب أستاذنا، وكأننا أبناؤه وكان يشجعنا أن نتعامل مع طلبته كما لو كنا أساتذة فيه، حتى كانت بداية عام 1965 ليُكلَّف بعضنا بالتدريس فيه بصورة رسمية، وليأخذ العمل فيه منحىً آخر، بالرسم خارج المركز في حماة وحولها، حيث أقمتُ برعاية أستاذي ومباركته، مخيّماً لطلبة المركز في قرية دير ماما قرب مصياف رجعتُ فيه بعدد من الأعمال الجيدة، ربما كانت من ضمن الأسباب التي حاز فيها طلبة مركز حماة على المركز الأول في معرض ضم إنتاجات طلبة مركز الفنون في سورية.. الأستاذ سهيل الأحدب كان يمتلك عيناً حساسة لا تخطئ الحيوية والنبضات الإبداعية في الأعمال التي كانت تعرض عليه، حتى لو كانت تتعارض مع الواقع، إذ كان مضمون أحكامه هي تلك الأحاسيس التي لا توجد إلا عند فنانٍ أصيل. والتي ما كانت لتقال إلا بكلمات قليلة محملة بشحنات هائلة من التشجيع».

استمر سهيل الأحدب على رأس مركز الفنون التشكيلية إلى حين وفاته فأطلق اسمه على المركز، ومن ثم مُنح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن