ثقافة وفن

أيمن أبو الشعر ذاكرة الشعر ذاكرة الحياة! … التزام بقضايا الوطن وهموم الأمة

| د. راتب سكر

انقطع عن متابعة الدراسة نحو سنة أو أكثر، مقيماً في لبنان، فاتحاً عينيه على تجارب جديدة في حياته، مثريا وعيه بما يجري على الساحة اللبنانية من حراك فكري وثقافي واسعين.

بدت تجربته مع الحياة والشعر أكثر نضجاً، بعد عودته من بلد الأرز وجبران، وراحت خطواته على دروب الكتابة تزداد رسوخاً، متابعاً دراسته الجامعية (1966- 1971) في «قسم اللغة العربية وآدابها» من جامعة دمشق، التي كانت تضج بنشاطات فكرية وثقافية واسعة، بلغت ذراها مع ظواهر المسرح الجامعي، فوجد في هذا الفضاء مكاناً مناسباً لمشاركاته في الملتقيات الشعرية، ووجدت قصائده، ولاسيَّما قصيدته عن استشهاد رئيس أركان القوات المسلحة المصرية عبد المنعم رياض على ضفاف قناة السويس في حرب الاستنزاف، في 9/3/1969، استقبالاً طيباً واسعاً بين عارفيه.

الديوان الأول والتميز

شارك الطالب الجامعي أيمن أبو الشعر بعد هذا الاستشهاد بنحو شهر ونيف في اللقاء الشعري الطلابي السنوي للاحتفاء بعيد الجلاء في 17/4/1969، فقرأ مرثاته ضمن باقة احتفائه بذكرى الجلاء في مقاطع شعرية حققت نقلة نوعية في حضوره شاعرا، تـأسست بها حالات التناغم بين البناء الفني والفكري والوجداني لخواتيم مقاطعه الشعرية، والتهاب أكف الناس بالتصفيق الحماسي، لكلمات تخاطب توثب أحوالها لحراسة أحلامها المهددة في انعطافات دروبها بالانكسارات والخيبات، يقول الشاعر في هذه القصيدة التي نشرها في ديوانه الأول «خواطر من الشرق»:

«نيسانُ عرِّجْ أن ظمِئْتَ لمصرِنا
فيها الدماءُ منابعٌ وسيولُ
لن ينضبَ الإقدامُ فوقَ عروبتي
ما دامَ يرفدُ شاطئيها النيلُ
يرويكَ يا نيسانُ خضبُ مجاهدٍ
قربَ القنالِ شهيدُنا محمولُ
في مصرَ أبطالٌ ثوَوا تحتَ الثرى
دقَّ النفيرُ بموتِها وطبولُ
يا أسمراً كحلَّتَ حسناءَ الفِدا
مصرُ العروسُ ومنعمٌ إكليلُ
يلقاكَ رضوانُ الجِنانِ بموكبٍ
زحمِ الملائك والندى متبولُ
فيقولُ أهلاً بالرجالِ لقد أتى
ربعُ الخلودِ مليكُها المأمولُ
نيسانُ أبلغ منعماً إعجابنا
وبأنَّ زحفاً ثائراً سيصولُ».

مما لاشكَّ فيه أن أبا الشاعر النائب الوحدوي القديم المنكسر محمد خيري أبو الشعر قد نام قرير العين في آخر ذلك النهار، مطمئناً على ما وضعه في كفِّ ولده من جمرة إيمان يتغنى بجمرة «عروبة يرويها خضب مجاهد شهيد قرب القنال، يلقاه رضوانُ الجِنانِ والملائك بموكبٍ».

ومن الراجح أن تلك الأخت الكبرى الجميلة الطيبة ليلى، التي صارت مذيعة مع نشأة التلفزيون في دمشق والقاهرة في عام 1960 من زمن الجمهورية العربية المتحدة سرَّها، كما سرَّ أباها، أن يكتب أخوها الصغير الذي استمرت تشجعه وتمنح كتاباته الشعرية ملاحظاتها الحانية، يعير عما يجيش في ضمير العائلة والمجتمع من مشاعر سامية.

الرمزية والقضية

وفي عودة إلى هذه القصيدة، لا بد من الإشارة إلى رمزية الشخصية التي ترثيها في تلك الأيام البعيدة، فعبد المنعم رياض (1919- 1969) رئيس أركان الجيش المصري، شارك مثل ابن جيله الرئيس عبد الناصر في حرب فلسطين عام 1948، وأبدى شجاعة في مواجهة العدوان الثلاثي عام 1956، وحرب 1967. أشرف على خطة تدمير خط بارليف، خلال حرب الاستنزاف، وسرْعان ما بدا بعد التغيرات الكبرى في تركيبة قيادة الجيش والدولة بعد نكسة حزيران في مصر أنه صاحب الاسم الأنقى في تعبيره عن مسارات الأمل والنقاء، ما عزز لديه عوامل الاندفاع والتفاني، فزار أكثر المواقع تقدماً على الجبهة وسط الجنود، وانهالت على ملتقاه معهم قذائف مدفعية الأعداء التي وجدت صيدها الثمين في مرماها القريب… من الراجح أن تلك الصورة الفجائعية لرحيل أحد سدنة الأمل والرجاء في أمة لم تندمل جراح حزيرانها بعد، قد ارتسمت في قصائد شعراء كثيرين من أجيال مختلفة في تلك الأيام، كان أيمن أبو الشعر واحداً منهم!

الإبداع واستقباله

هذه الأحوال في استقبال الشعر والفنون الأخرى، تفسر للمتابع جانباً نفسياً غامضاً من حالات استقبال عدد من الأفلام السينمائية العربية والأجنبية التي عرضت في سورية ولبنان في تلك الأزمنة المرة، وسط الشعور بارتباط الخلاص والكرامة والحب بالموت، وذاك الجانب كان يعبر عنه في تجربتي الشخصية بالذهول والصمت المطبق في حضور فيلم «زد Z» في سينما كابيتول في بيروت، أو في الدموع المبالغ بها في متابعة مشاهد الموت والمقبرة في عرض فيلم «روميو وجوليت» في سينما حماة، أو في الدموع المسكونة بمسرات سرَّانية في حضور فيلم «الموت حباً» في دمشق، وفي تداخل كل ذلك مع حكايات الفيلم المصري «أغنية على الممر» التي حولتها فرقة نادي الفارابي المسرحية في حماة إلى فضاء فني ثقافي فكري خاص: جمال الحياة وذكرياتها مقابل «الموت حباً» والاستشهاد في سبيل القيم والأحلام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن