اقتصاد

«صبحـة» بمرتبة مدير عـام!

| د. سعـد بساطـة

حكى لنا الصديق نصيرات عـن «صبحـة»: العـجوز التي لا تقرأ.. أرسلوها إلى مدرسة محو الأمية وصادف وصولها إلى الصف أن كان الدرس يتمحور حول عبارة (دخل فالح…. خرج فالح). وبعد عودة الختيارة إلى البيت مرهقة في آخر النهار، سألوها عن ماذا درست في الصف؟!

تنهدت صبحـة بحسرة وقالت: «ما قرينا شي ولا استفدنا حرف».

– ليش يمّه؟- أي هوّه فالح خلاّنا نقرا؟

– شو عمل فالح؟ قضّاها فايت طالع ع الصف. والمعلمة بتقول… خرج فالح.. دخل فالح.

– وأنتي شو كنتي تعملي؟- أنا كنت اتستّر وألبس ع راسي كل ما دخل فالح….

بالمناسبة هذه العجوز – صبحـة- ليست مجرد كائن هرم يتعلم على كبر، هي أمنا… هي نحن، لا بل هي مؤسساتنا جميعها. وفالح هذا هو موضوع الدرس الحقيقي…. الحياة، العلم، العمل، المستقبل، الواقع، الحقيقة، سمّه ما شئت.

نعم يا سادة يا كرام، نحن نتعامل مع إيقاع العصر بذات طريقة صبحـة، وإن كانت صبحـة قد خسرت حصة في درس الأمية، فإننا نخسر حصتنا من درس التاريخ بأكمله.

بعد أن ضحك أبناء صبحـة وأحفادها قليلاً، ربما تكون صبحـة قد عرفت أن (فالح) مجرد اسم، وهو الدرس بعينه، وليس شخصاً يدخل ويخرج من الحصّة، بالتالي سوف تتعلم العجوز بسرعة في الحصة التالية. ولكن… ماذا عـن مؤسساتنا؟!

كانت الدولتان العربيتان الأموية والعباسية تعملان على إيقاع الكون، فسادتا على العالم في زمنهما، وخرجتا حينما خرجتا عن إيقاع عصورهما.

جاء المماليك، والعالم يطور في أسلحته، لكنهم فضّلوا الفروسية على التطور العلمي، فسقطوا بسهولة أمام جحافل العثمانيين الذين تعاملوا مع تكنولوجيا المدافع.

العثمانيون – ذات قرن- وقعوا في مطب رفض الطباعة، وفضّلوا عمليات النسخ، ذات الجماليات، فكان أن خرجوا من إيقاع العصر تدريجياً، وعندما عادوا للطباعة كان العالم قد تجاوزهم وتجاوزنا معهم.

سقطنا مرة أخرى أمام مدافع نابليون، وخرجنا من التاريخ والجغرافيا معاً. في حين لملم الآخرون أنفسهم وتحولوا إلى أمم كبرى تحترم العلم وتمشي على إيقاع الحضارة.

مقابل كل قصة نجاح حصدتها بعض الشركات العالمية وما حققت من سمعة قوية في السوق العالمية، هناك على الجانب الآخر الكثير من الشركات التي فشلت في الاستمرار بالسوق، ومن بينها شركات كبرى كانت ذات سيطرة عالمية؛ لكنها على الرغم من ذلك أغلقت أبوابها ولم تعد موجودة في الوقت الحالي، وتختلف أسباب اختفاء هذه الشركات!

ارتبط التصوير الفوتوغرافي باسم «كوداك» طوال قرن كامل؛ هذه الشركة الرائدة وفّرت «ديمقراطية الصورة»، بجعلها «تخليد الذكرى» أمراً متاحاً للجميع وبأسعار معقولة.

وقبل سنوات كثيرة من ظهور مصطلح ربط الناس شعار لحظة كوداك بلحظات حياتهم الثمينة، التي شجعت على توثيقها بلا قلق من الحصول على اللقطة المثالية؛ فالفيلم يسع عشرات الصور، ولا بدّ من نجاح إحداها.

تربّعت «كوداك» على عرشها سنوات طويلة، حتى العام 2005 حين اكتسحت الكاميرات الرقمية السوق واكتسبت شعبية متزايدة، فارضة عصراً جديداً دقّ ناقوس الخطر لعملاق صناعة الصور الأكبر.

وأدى بها هذا التفاؤل الأعمى إلى إشهار الإفلاس في نهاية المطاف، لكن «كوداك» كافحت للهرب من مصيرها المظلم، ولاتزال في محاولات للبقاء بعائدات صغيرة بعدما كانت تحقق مليارات الدولارات سنوياً.

قطاعٌ آخر أرهقه سباق التطور التكنولوجي، هو قطاع صناعة الهواتف الخلوية؛ وما الدموع التي ذرفتها شركة «نوكيا» عام 2013، سوى دليل. يومها، ختم مديرها خطابه بالقول: «لم نفعل شيئاً خاطئاً، لكننا خسرنا بطريقة ما»، وهو ما يختصر رحلة الانهيار.

وعزا عدد من هذه الدراسات سبب «وفاة نوكيا» ونظيراتها، ليس فقط إلى ضعف التقنية مقارنة بـغـيرها، بل أيضاً إلى ضعف الرؤية لمستقبل القطاع، وعدم مواكبة التطور التكنولوجي الهائل الذي لحق به.

ليست «كوداك» و«نوكيا» و«بلاك بيري» سوى نماذج عن شركات عملاقة سقطت بسبب التأخر عن ركب التطور التكنولوجي، ولعلّ خسارتها درسٌ لأي شركة يتملّكها غرور التفوق أو الكسل عن بذل مزيد من الجهد للاستمرار على القمة، وفق مقولة «إن لم تتطور، فستغدو خارج المنافسة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن